فرق بین الاتجاه نحو فکرة «الجماعة» والاتجاه نحو فکرة «الأمة»، فالأولى تدفع نحو البحث عن الفِرَق والنحل الإسلامیة، بینما الثانیة تتجه إلى الوحدة والنهوض والاستئناف الحضاری. وفکرة الأمة تخدم الجماعة أکثر من تکریس الحدیث عن الجماعة وکأنها فرقة منفصلة عن الأمة. والمدرسة الشیعیة المعاصرة کان لها فی العصر الحدیث والمعاصر مساع للاتجاه نحو الأمة الواحدة تمثلت فی خطاب جمال الدین الحسینی وخطاب الثورة الإسلامیة فی إیران ومشاریع التقریبیین فی إیران والعراق ولبنان. ..
فرق بین الاتجاه نحو فکرة «الجماعة» والاتجاه نحو فکرة «الأمة»، فالأولى تدفع نحو البحث عن الفِرَق والنحل الإسلامیة، بینما الثانیة تتجه إلى الوحدة والنهوض والاستئناف الحضاری. وفکرة الأمة تخدم الجماعة أکثر من تکریس الحدیث عن الجماعة وکأنها فرقة منفصلة عن الأمة. والمدرسة الشیعیة المعاصرة کان لها فی العصر الحدیث والمعاصر مساع للاتجاه نحو الأمة الواحدة تمثلت فی خطاب جمال الدین الحسینی وخطاب الثورة الإسلامیة فی إیران ومشاریع التقریبیین فی إیران والعراق ولبنان.
الأطروحة.. الرؤیة والصورة
الأطروحة التی أحاول أن أقرر لها فی هذه المطالعة، تتحدد على النحو الآتی: أن المسلمین الشیعة یتقدمون کلما اتجهوا نحو فکرة الأمة، ویتراجعون کلما اتجهوا نحو فکرة الجماعة، والاتجاه نحو فکرة الأمة یأتی تعبیرًا عن حالة من النهوض والتقدم، والاتجاه نحو فکرة الجماعة یأتی تعبیرًا عن حالة من التراجع والانکماش.
فی الاتجاه نحو فکرة الأمة، تبرز وتتجلى ملامح الشعور بالثقة، والرغبة فی الانفتاح والتواصل، والإحساس بالمصیر والمستقبل المشترک، والحاجة إلى تخطی کل مظاهر وأشکال التجزئة والانقسام، والتعالی على رواسب وحساسیات الماضی والتاریخ.
وحسب هذه الأطروحة، إن الاتجاه نحو فکرة الأمة هو الذی یعزز تماسک الجماعة ویحفظ کیانها، بینما الاتجاه نحو فکرة الجماعة قد یتسبب فی إرباک تماسک الجماعة، وخلخلة کیانها.
وتعلیل ذلک، أن الاتجاه نحو فکرة الأمة، یجعل الجماعة تنظر إلى ذاتها من خلال الفضاء الواسع، فضاء الأمة الممتد على مدى جغرافیتها الطبیعیة والسکانیة، من طنجة فی الغرب إلى جاکرتا فی الشرق، وبالشکل الذی یفتح علیها هامشًا واسعًا من الحرکة، ویفک عنها حالة الحصار أو حالة الشعور بالحصار.
فی حین أن الاتجاه نحو فکرة الجماعة، یضع الجماعة أمام الأفق الضیق، ویجعل نظرها یترکز إلى داخلها، بطریقة تثار معها الحساسیات والانقسامات الحادة، وقد تثیر معها حتى النزاعات التی تظهر عادة فی وضعیات الانغلاق والانکماش، بسبب الاحتکاکات التی تحصل نتیجة الهوامش الضیقة.
وما ترید هذه الأطروحة تأکیده، أن الاتجاه نحو فکرة الأمة، کان وما زال یمثل اتجاها قائما ومؤثرًا فی المجال الإسلامی الشیعی، وممتدًا من الأزمنة الوسیطة إلى الأزمنة الحدیثة والمعاصرة، وهو الاتجاه الذی عرف بنزعته الإصلاحیة والتجدیدیة، وبدعوته إلى الانفتاح والتواصل بین المسلمین کافة مذاهبَ ومجتمعات، سعیًا وتحقیقًا لمفهوم الأمة الجامعة، وتمثلاً وتجلیًا لمفهوم الأمة الواحدة، التی تظلل وتحمی مجتمعات المسلمین کافة، على امتداد جغرافیاتهم الطبیعیة والسکانیة، وعلى اختلاف وتنوع لغاتهم وألسنتهم، أعراقهم وقومیاتهم، مذاهبهم ومدارسهم.
وقد عبّر هذا الاتجاه عن نفسه، لیس من خلال أفکار ومواقف عادیة وعابرة، أو مجتزأة ومبتورة، تکون قابلة للنسیان والاندثار، ومعرضة للتلاشی والاضمحلال مع مرور الوقت، وتعاقب الأیام، أو تکون قابلة للجدل والنقاش فی صدقیتها وجدّیتها، وإنما من خلال خطوات لها صفة التأسیس والتقعید فی مجال العلوم والمعارف، ومن خلال مبادرات لها صفة الحرکة والنهوض، ومن خلال أشخاص وأعلام لهم صفة التأثیر والاعتبار فی تاریخ تطور حرکة الإصلاح والتجدید فی المجال العربی والإسلامی الحدیث والمعاصر.
جدلیة الجماعة والأمة فی المجال الإسلامی العام
ظهرت جدلیة الجماعة والأمة وعرفت فی ساحة المسلمین، مع تشکّل وتکوٍن ما عرف بالفرق والجماعات الفکریة والاجتماعیة، وتعززت هذه الجدلیة وترسخت مع بقاء وثبات هذه الفرق والجماعات التی ترتد فی أصولها الفکریة والتاریخیة إلى عصور الإسلام الأولى، وذلک بعد انقسام المسلمین إلى فرق وجماعات، تبلورت وتحددت فی مذاهب فقهیة وکلامیة، وجد فیها المسلمون فی عصورهم الحدیثة، أنها من تجلیات ظاهرة التنوع والتعدد فی ساحة الإسلام والمسلمین.
وخلال التاریخ الفکری للمسلمین، ظهرت الکثیر من الفرق والجماعات، الصغیرة والکبیرة، وقد وصلت حسب کتاب جامع الفرق والمذاهب الإسلامیة إلى ما یزید على مائتین فرقة وجماعة(1).
واللافت فی الأمر، أن ما من فرقة وجماعة ظهرت، إلا وانقسمت على نفسها انقسامات عدة، لعوامل وأسباب ترجع تارة إلى الأشخاص، وتارة إلى الآراء والأفکار، وتارة إلى اختلاف الأمکنة والبیئات والمدن، وتارة إلى الصراعات والنزاعات الفکریة والسیاسیة، وبقی هذا الحال قائمًا ومستمرًا لقرون عدة.
ومع أن الکثیر من هذه الفرق والجماعات قد تلاشت واضمحلت، والکثیر منها نُسیت وطُمست، ولم یعد لها ذکر وذاکرة منذ قرون عدة، إلا أن هذه الظاهرة کشفت عن مدى شدة وسعة الانقسام الفکری الحاصل بین المسلمین.
ومن أکثر ما یلفت النظر إلى هذه الظاهرة، أنها حصلت فی العصور القریبة من تاریخ الإسلام، وذلک بسبب الاختلافات والصراعات والفتن المبکرة والعنیفة التی ظهرت فی ساحة المسلمین آنذاک.
ومن أشد ما لفت الانتباه إلى ظاهرة الانقسام بین الجماعات فی ساحة المسلمین، وتقدیم فکرة الجماعة وتغلیبها على فکرة الأمة، هو حدیث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعین فرقة، هذا الحدیث المختلف والمتنازع علیه سندًا ومتنًا، یُعد من أکثر الأحادیث التی ضربت وأضرت فکرة الأمة وأطاحت بها، وکأن الإسلام جاء لتکوین جماعة أو فرقة تکون هی الفرقة الناجیة، ولم یأت لتکوین أمة تکون أمة جامعة لکل المسلمین.
وکان من نتائج هذا الحدیث المثیر للجدل، أن ترتب علیه نشوء أدب خاص بات یعنى بالبحث عن الفرق وتعدادها فی ساحة المسلمین، والکشف عما بین هذه الفرق من فروقات، صغیرة أو کبیرة، ظاهرة أو باطنة، حادثة أو أصیلة.
ومن أشهر المؤلفات التی وصلتنا فی نطاق هذا الأدب، ثلاثة مؤلفات تتجلى من عناوینها وهی: کتاب الفرق بین الفرق لعبد القاهر البغدادی (ت 429هـ/1037م)، وکتاب الفصل فی الملل والأهواء والنحل لابن حزم الأندلسی (384-456هـ/994-1063م)، وکتاب الملل والنحل لمحمد بن عبد الکریم الشهرستانی (479-548هـ).
ومن شدة العنایة بهذا النمط من الأدب، حاول الشهرستانی أن یضع قانونًا یبنی علیه حسب قوله، فی تعداد الفرق الإسلامیة، وأشار إلى هذا القانون فی المقدمة الثانیة من المقدمات الخمس التی افتتح بها کتابه، وحملت هذه المقدمة عنوان (فی تعیین قانون یبنى علیه تعدید الفرق الإسلامیة).
وعن هذا القانون والحاجة إلیه، یقول الشهرستانی «اعلم أن لأصحاب المقالات طرقًا فی تعدید الفرق الإسلامیة، لا على قانون مستند إلى أصل ونص، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود. فما وجدت مصنفین منهم متفقین على منهاج واحد فی تعدید الفرق. ومن المعلوم الذی لا مراء فیه، أن لیس کل من تمیز عن غیره بمقالة ما، فی مسألة ما، عُدّ صاحب مقالة. وإلاّ فتکاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعدّ، ویکون من انفرد بمسألة فی أحکام الجواهر مثلا معدودًا فی عداد أصحاب المقالات، فلا بد إذن من ضابط فی مسائل هی أصول وقواعد یکون الاختلاف فیها اختلافًا یعتبر مقالة، ویعد صاحبه صاحب مقالة.
وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عنایة بتقریر هذا الضابط، إلا أنهم استرسلوا فی إیراد مذاهب الأمة کیف اتفق، وعلى الوجه الذی وجد، لا على قانون مستقر، وأصل مستمر، فاجتهدت على ما تیسر من التقدیر، وتقدر من التیسیر حتى حصرتها فی أربع قواعد، هی الأصول الکبار»(2).
وإذا کانت هناک حاجة فعلیة لمثل هذا القانون، نتیجة توسع الانشغال والاهتمام بدراسة وتعداد الفرق الإسلامیة، بسبب تزاید وتشعب هذه الفرق، فإن الحاجة الأکثر أهمیة وأولویة کانت لوضع قانون یحفظ للأمة وحدتها وتماسکها، ویتخذ من مفهوم الأمة الجامعة أساسا ومرتکزًا ونهجًا یکون ثابتًا وراسخًا، لا یجوز تخطیه أو الخروج علیه، أو الانتقاص منه.
وکان من السهولة الالتفات لهذا القانون، وإدراک الحاجة إلیه، فی ظل ما کانت تشهده الأمة من انقسامات على نفسها، وتحولها إلى فرق وجماعات متباعدة ومتخاصمة، ومنشغلة بالکشف عن الفروقات فیما بینها، لتحقیق الغلبة والانتصار، وکسب الفوز بالفرقة الناجیة، کل ذلک بدل الانشغال بالکشف عن الجوامع والمشترکات بین هذه الفرق والجماعات، لتحقیق الغلبة والانتصار لمفهوم الأمة الجامعة، والأمة الناجیة بدل الفرقة الناجیة.
کما کان من الممکن الالتفات لهذا القانون أیضًا، حین العودة إلى النص القرآنی الذی لفت الانتباه بشدة لفکرة الأمة، وکرر استعمال هذه التسمیة بصیغة المفرد أکثر من خمسین مرة، فی خمس وعشرین سورة مکیة ومدنیة، من سورة البقرة إلى سورة الأحقاف.
ومن أکثر ما یلفت الانتباه فی استعمال تسمیة الأمة فی النص القرآنی، أمران هما:
الأمر الأول: أن النص القرآنی فی جمیع آیاته من أول القرآن إلى نهایته، لم یستعمل تسمیة الجماعة قط.
الأمر الثانی: أن النص القرآنی استعمل تسمیة الأمة فی مکان استعمال تسمیة الجماعة، وأعطى الجماعة تسمیة الأمة، وهذه کانت واحدة من معانی استعمال کلمة أمة فی النص القرآنی.
ومن الآیات التی دلت على هذا المعنى، قوله تعالى > وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِکُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِیدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّکُمْ وَلَعَلَّهُمْ یَتَّقُونَ<(3).
ولا شک فی أن هذه الإشارة بالغة المعنى، من جهة حقلها الدلالی فی إعطاء کلمة الأمة سمة التفضیل من جهة، وسمة الترجیح على کلمة الجماعة من جهة أخرى.
وهذا التفضیل والترجیح بهذا الظهور البیانی، لا یمکن النظر له بعیدا عن مقصد القرآن الکلی فی بناء وتکوین الأمة الوسط، مصداقا لقوله تعالى: >وَکَذَلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَکُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَیَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیدًا<(5).
وبناء وتکوین الأمة الخیریة، مصداقا لقوله تعالى > کُنتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ<(6).
الأمر الذی یعنی أن القرآن الکریم جاء لبناء وتکوین أمة، ولیس لبناء وتکوین جماعة، وهذا ما کان ینبغی الالتفات والتنبیه إلیه، وتحویله إلى مقصد ثابت على مستوى النظر، وإلى نهج واضح على مستوى العمل.
وفی المحصلة، إن الإقرار والاعتراف بوجود الفرق والجماعات فی ساحة المسلمین، لا ینبغی أن یغلّب فکرة الجماعة على فکرة الأمة، والانتصار لفکرة الجماعة على حساب فکرة الأمة، ولا التنبه لفکرة الجماعة، والتغافل عن فکرة الأمة، بسبب تأثیر التاریخ الطویل من الانقسام والنزاع بین هذه الفرق والجماعات.
جدلیة الجماعة والأمة فی المجال الشیعی
إن جدلیة الجماعة والأمة هی أکثر وضوحًا فی المجال الإسلامی الشیعی، وذلک نظرًا لطبیعة التاریخ الذی عاصره المسلمون الشیعة، وحکم مسیرتهم الفکریة والاجتماعیة والسیاسیة لفترات طویلة، وامتد تأثیره حتى فی طریقة النظر لأنفسهم، وبشکل یدفع بهم إلى الالتفات دائمًا لفکرة الجماعة التی کانت مهددة فی وجودها، وفی أمنها وسلامتها، وحفظ کیانها.
والملاحظ بصورة عامة، أن المسلمین الشیعة غالبًا ما کانوا یوضعون فی الموقف الذی یجعلهم ینظرون لأنفسهم فی إطار فکرة الجماعة، لا فی إطار فکرة الأمة، ویدفعون إلى هذا الموقف دفعًا، برغبتهم أو دون رغبتهم، بإرادتهم أو دون إرادتهم، وذلک بحکم مواقفهم الفکریة والسیاسیة المغایرة، التی جعلتهم غالبًا فی خط المواجهة والمعارضة، وخارج مؤسسة الحکم.
کما أن النظرة العامة التی تشکلت حول المسلمین الشیعة قدیمًا وحدیثًا، کانت تضعهم خارج نطاق فکرة الأمة، وذلک من خلال التشکیک فی عقیدتهم وإیمانهم، وتصویرهم کما لو أنهم فرقة منشقة عن کیان الأمة، وتصنیفهم فی دائرة أهل الأهواء والبدع، وهناک من حکم علیهم بالضلال، والخروج عن سبیل المؤمنین، واتهامهم بالأعمال الشرکیة، والتعامل معهم وفق قاعدة هجر المبتدع، القاعدة التی اتخذت من القطیعة والتباعد أصلاً وأساسًا.
هذه هی الصورة النمطیة التی ظلت متوارثة عن المسلمین الشیعة، لکنها الصورة التی لا تستند إلى علم ودرایة، وتکشف کیف أن المسلمین ظلوا یجهلون بعضهم بعضًا، ولا یسعون لرفع هذا الجهل، مع أنهم یحفظون ویکررون ما روی عن الإمام علی (ع) قوله «الناس أعداء ما جهلوه»، وروی عنه أیضًا قوله: «الجهل فساد کل أمر»، و«الجهل أصل کل شر»(9).
وفی تأکیده لهذه الحالة ونقده لها، یقول الدکتور أحمد کمال أبو المجد: «لا یکاد أکثر المثقفین غیر المتخصصین من أهل السنة، یعرفون عن الشیعة إلا أنهم طائفة أسرفت فی التشیع لعلی بن أبی طالب، وترى أنه کان أولى بالخلافة من أبی بکر وعمر، وأنهم فوق ذلک أصحاب بدع یخالفون بها مذهب أهل السنة، ویخرج بها المتطرفون منهم عن دائرة الإسلام الصحیح»(10).
وحین توقف أمام هذه الحالة، الکاتب المصری فهمی هویدی کاشفًا لها، ومستغربًا منها، کتب یقول کل «من قدر له أن یطوف بأرجاء العالم العربی، لا بد أنه صادف بعضًا من آثار موقف اللامعرفة والتوجس من جانب أهل السنة تجاه الشیعة، حتى أننی سمعت من ینتسب إلى العلم والسلف فی دولة عربیة شقیقة، یصنف عقائد الشیعة لیس فقط باعتبارها خروجًا عن الإسلام، ولکن بحسبانها شیئا أدنى من عقائد أهل الکتاب والصابئة والمجوس والوثنیین!» (11).
أمام هذه الصورة النمطیة المتوارثة والمشوهة، وجد المسلمون الشیعة أنفسهم دائمًا فی موقف الدفاع عن الذات، ونفی التهم والتشکیکات، والعمل على تصحیح الصورة، والمطالبة بحقهم فی البقاء والوجود، وجمیع هذه المواقف والحالات تندرج وتتأطر فی نطاق فکرة الجماعة، وبشکل یجعل فکرة الجماعة هی الفکرة الغالبة فی ساحة المسلمین الشیعة، بإرادتهم أو من دون إرادتهم.
ومن جانب آخر، إن هذه الصورة النمطیة المشوهة، کانت وما زالت تمثل موقفًا فکریًا وسلوکیًا طاردًا للمسلمین الشیعة من دائرة فکرة الأمة، بمعنى أن الموقف الفکری والسلوکی الموجه والممارس مع المسلمین الشیعة، لم یکن یقربهم من فکرة الأمة، ویشجعهم ویستوعبهم من هذه الجهة، من خلال الاعتراف لهم بوجودهم، وبحقهم فی الاجتهاد والاختلاف الفکری، والتعایش والتفاهم معهم على قاعدة مبدأ التعدد والتنوع ضمن دائرة الإسلام.
التقیة.. وجدلیة الجماعة والأمة
یعد مفهوم التقیة أحد أکثر المفاهیم التی أثارت جدلاً وسجالاً فی تاریخ تطور العلاقات الفکریة والاجتماعیة بین المسلمین السنة والشیعة، وأحد أکثر المفاهیم أیضًا، التی وضعت المسلمین الشیعة فی دائرة الالتباس وسوء الفهم، وطالما تم توظیف هذا المفهوم لتوجیه الاتهام للمسلمین الشیعة، والتشهیر بهم، والتشنیع علیهم، وتصویرهم على غیر حقیقتهم، کما لو أنهم جماعة یتعمدون الغموض والکتمان على طریقة الجماعات السریة والباطنیة، أو کما لو أنهم جماعة غیر قابلة على الفهم، أو من الصعب فهمهم على حقیقتهم، وکل هذه تصویرات وتوظیفات لا أساس لها من الصحة، فی نظر عموم المسلمین الشیعة.
وحقیقة الأمر أن التقیة تتصل من جهة بفکرة الجماعة، وتتصل من جهة أخرى بفکرة الأمة، تتصل بفکرة الجماعة، من جهة أن التقیة هی سلوک یتبعه جمیع العقلاء بما هم عقلاء من أهل جمیع المذاهب والدیانات قدیمًا وحدیثًا، والعقلاء یلجؤون لهذا السلوک عند الاضطرار الشدید، وفی حالة الظروف الخاصة والقاهرة، لغرض الدفاع عن الذات، والحفاظ على الحیاة، والحق فی البقاء، وتجنبًا للخطر والضرر الذی لا یحتمل، وهذا ما تقرره جمیع الشرائع والدیانات، ویقول به جمیع العقلاء والحکماء، وبموجب قانون الحقوق فإن حق الحیاة مقدم على جمیع الحقوق الأخرى.
وتأکیدًا لهذا المعنى، یقول الشیخ محمد الحسین آل کاشف الغطاء (1295-1373هـ/1876-1954م): «من الأمور التی یشنع بها بعض الناس على الشیعة ویزدری علیهم بها، قولهم بالتقیة جهلاً منهم بمعناها وبموقعها وحقیقة مغزاها، ولو تثبتوا فی الأمر، وتریثوا فی الحکم، وصبروا لعرفوا أن التقیة التی تقول بها الشیعة لا تختص بهم ولم ینفردوا بها، بل هو أمر ضرورة العقول، وعلیه جبلّة الطباع وغرائز البشر، وشریعة الإسلام فی أسس أحکامها وجوهریات مشروعیاتها تماشی العقل والعلم جنبًا إلى جنب، وکتفًا إلى کتف، رائدها العلم، وقائدها العقل، ولا تنفک عنهما قید شعرة، ومن ضرورة العقول، وغرائز النفوس، أن کل إنسان مجبول على الدفاع عن نفسه، والمحافظة على حیاته، وهی أعز الأشیاء علیه، وأحبها إلیه، نعم قد یهون بذلها فی سبیل الشرف وحفظ الکرامة وصیانة الحق ومهانة الباطل، أما فی غیر أمثال هذه المقاصد الشریفة، والغایات المقدسة، فالتغریر بها، وإلقاؤها فی مظان الهلکة، ومواطن الخطر، سفه وحماقة لا یرتضیه عقل ولا شرع، وقد أجازت شریعة الإسلام المقدسة للمسلم، فی مواطن الخوف على نفسه أو عرضه، إخفاء الحق، والعمل به سرًا»(12).
وحین توقف الدکتور أحمد کمال أبو المجد أمام هذه الرأی، أظهر توافقًا معه، واستشهادًا به، وحسب قوله: «والتقیة فی معناها العام، أن یضمر المسلم غیر ما یعلن دفاعًا عن نفسه، واتقاء لخطر لا یقدر على دفعه، إذ قد أجازت شریعة الإسلام المقدسة للمسلم فی مواطن الخوف على نفسه أو عرضه إخفاء الحق والعمل به سرًا، ریثما تنتصر دولة الحق وتغلب على الباطل، کما أشار إلیه جل شأنه: > إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةًإِلاَّ مَنْ أُکْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِیمَانِ
والحق أن هذا المسلک الدفاعی فی مواجهة الخطر الداهم، لیس مما ینفرد به الشیعة، ولکنهم لجأوا إلیه لما تعرضوا له منذ بدایة الحکم الأموی من اضطهاد وتضییق وأذى، وقد لخص ذلک العلامة محمد الحسین آل کاشف الغطاء بقوله: والتعییر بالتقیة لیس على الشیعة، بل على من سلبهم موهبة الحریة، وألجأهم إلى العمل بالتقیة.
کما أنه من التجنی، أن یصور مسلک الشیعة فی عمومه، بأنه مسلک یتعمد التقیة، ویرکن إلیها»(13).
وفی سیاق هذا الرأی توافقًا وتطابقًا، ما ذهب إلیه فهمی هویدی بقوله: «مسألة التقیة بمعنى التعامل بظاهر مختلف عن الباطن، لیست بدعة شیعیة کما یظن کثیرون، ولکنه سلوک له أصل فی الإسلام، والکلمة مشتقة من العبارة القرآنیة >إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً(14).
وتتصل التقیة بفکرة الأمة، من جهة أن التقیة تعنی تقدیم ما هو عام على ما هو خاص، وجعل ما هو عام راجحًا على ما هو خاص، فی الموارد التی تقتضی تقدیم العام على الخاص، وترجیح العام على الخاص، وذلک بعدم التجاهر وإشهار بعض الطقوس والسلوکیات الخاصة فی المجال العام، بقصد أن یظهر المسلمون بمظهر التفاهم والتوافق والتآلف.
والفرق بین المعنى الأول الذی تتصل فیه التقیة بفکرة الجماعة، وهذا المعنى الذی تتصل فیه التقیة بفکرة الأمة، أن المعنى الأول یأتی بدافع الاضطرار، ومع حصول الضرر الراجح، بینما المعنى الثانی یأتی بدافع الاختیار، ومع حصول النفع الراجح.
وفی نطاق هذا المعنى، بربط التقیة بفکرة الأمة، یمکن الإشارة إلى الأقوال الآتیة:
القول الأول: وأشار إلیه السید هبة الدین الشهرستانی (1301-1386هـ/1884-1967م)، عند حدیثه عن الغرض من التقیة، بقوله: إن التقیة جاءت لغرض «صیانة النفس والنفیس والمحافظة على الوداد والأخوة مع سائر إخوانهم المسلمین، لئلا تنشق عصا الطاعة، ولکیلا یحس الکفار بوجود اختلاف ما فی الجامعة الإسلامیة، فیوسعوا الخلاف بین الأمة المحمدیة»(15).
القول الثانی: وأشار إلیه الشیخ محمد رضا المظفر (1322-1383هـ/1904-1964م)، الذی یرى أن حکمة التقیة عند المسلمین الإمامیة، جاءت «دفعا للضرر عنهم، وحقنًا لدمائهم، واستصلاحا لحال المسلمین، وجمعًا لکلمتهم، ولـمًّا لشعثهم»(16).
القول الثالث: وأشار إلیه الشیخ محمد مهدی شمس الدین (1354-1421هـ/1936ـ 2001 م)، الذی یرى أن تشریع التقیة یهدف إلى تحقیق أمرین، أحدهما «حفظ حالة التجانس والتلاحم فی المجتمع الإسلامی بین جمیع الفئات المذهبیة وغیرها، وعدم التسبب -نتیجة للموقف المذهبی- فی حدوث نزاعات وتوترات مذهبیة- طائفیة، سیاسیة واجتماعیة»(17).
القول الرابع: وأشار إلیه السید محمد حسین فضل الله (1354-1431هـ/1935-2010م)، الذی یرى أن التقیة تأتی فی «الحالة التی قد تفرض فیها المصلحة الإسلامیة العلیا، تجاوز بعض الشروط الخاصة لبعض الأحکام الشرعیة، بحیث تتقدم الأهمیة الکبرى للواقع الإسلامی الذی یراد حمایته، على کل هذه المفردات الشرعیة»(18).
القول الخامس: وأشار إلیه الشیخ محمد واعظ زاده الخراسانی، الذی یرى أن «التقیة فی الإسلام تدور إذا تعارضت المصالح الخاصة لمذهب ما، مع المصالح الإسلامیة، وجب تقدیم المصالح الإسلامیة بالتنسیق مع سائر المسلمین»(19).
الإشارة إلى هذه الأقوال کان بقصد تأکید تعاضدها، وکیف أنها تمثل اتجاها ومسارًا قائمًا ومتجلیًا، خاصة وأن هذه الأقوال تتصل بأزمنة متفرقة، وتنتمی إلى أمکنة متعددة هی العراق ولبنان وإیران، وصدرت عن أشخاص لهم وزنهم واعتبارهم الفکری والإصلاحی.
وما یؤکد الحاجة للإشارة إلى هذه الأقوال، کون أن المعنى المتحصل منها، والمتصل بربط التقیة بفکرة الأمة، هو من المعانی الغائبة عن الإدراک عند نخب المسلمین السنة، فضلا عن جمهورهم، ولا یلتفت إلیه عادة، ولم أجد اقترابًا منه، وإشارة إلیه فی الکتابات التی رجعت إلیها، مع تطرق هذه الکتابات ومناقشتها لفکرة التقیة عند المسلمین الإمامیة.
جمال الدین الأفغانی.. والعبور من الجماعة إلى الأمة
من المحطات التاریخیة المهمة التی لا بد من التوقف عندها، ودراستها والنظر فیها عند البحث عن جدلیات الجماعة والأمة فی المجال الإسلامی الشیعی، المحطة التی ظهر فیها السید جمال الدین الأفغانی (1254-1314هـ/1838-1897م)، ومثل فیها نموذجًا قل نظیره فی العبور من فکرة الجماعة إلى فکرة الأمة.
وفی عصره کان الأفغانی أحد أکثر الرجال دفاعًا عن الأمة والأمة الجامعة، بل وأحد أکثر الرجال تمثلا لفکرة الأمة الجامعة، التی اتخذ منها ساحة لحرکته ونشاطه، حتى عرفت حرکته الإصلاحیة الرائدة فی النصف الثانی من القرن التاسع عشر المیلادی بحرکة الجامعة الإسلامیة، ومدرسة الجامعة الإسلامیة، وهو المفهوم الذی أثار بشدة حفیظة الغربیین المستعمرین، لأنهم وجدوا فیه دعوة الشعوب الإسلامیة للتکتل والاتحاد فی مواجهتهم، ومقاومة نفوذهم واستعمارهم، وهذا ما کان یخیفهم ویثیر حساسیتهم.
والمدهش فی الأفغانی، أنه استطاع أن یبعث روحًا فی الأمة على اختلاف تنوعها وتعددها المذهبی والقومی واللغوی، وعلى امتداد مساحتها المکانیة والجغرافیة، روحًا دفع بها الأمة نحو الیقظة والنهوض، وعرف عصره بعصر النهضة والإصلاح.
واعترف له المؤرخون والباحثون، عربًا ومسلمین ومستشرقین، بهذا الدور النهضوی والإصلاحی الرائد والکبیر، وهم الذین تعمدوا المبالغة فی الأوصاف التی أطلقوها علیه، بین من وصفه بموقظ الشرق مثل عبد الرحمن الرافعی فی کتابه جمال الدین الأفغانی باعث الشرق، ومن وصفه بحکیم الشرق مثل قدری قلعجی فی کتابه جمال الدین الأفغانی حکیم الشرق، وبین من وصفه بباعث النهضة الفکریة فی الشرق مثل محمد سلام مدکور فی کتابه جمال الدین الأفغانی باعث النهضة الفکریة فی الشرق.
واعتبره مالک بن نبی (1323-1393هـ/1905-1973م)، بأنه باعث الحرکة الإصلاحیة ورائدها، وبطلها الأسطوری فی العصر الحدیث(20)، ووصفه المستشرق الإنجلیزی هاملتون جیب (1895-1971م)، بالرائد الکبیر للنهضة الإسلامیة الحدیثة فی القرن التاسع عشر(21).
هذا الدور الإصلاحی الکبیر الذی نهض به الأفغانی، مثل أحد صور إسهامات المجال الإسلامی الشیعی فی الدفاع عن الأمة والأمة الجامعة، والانحیاز لهذه الفکرة، والتمسک بها، بوصفها تمثل خیارًا ونهجًا وسبیلاً لا بد من الالتزام به، على طریق بناء مستقبلنا الإسلامی الحضاری المشترک.
ومن جانب آخر، کشف هذا الدور الإصلاحی الکبیر عن مدى حضور فکرة الأمة فی المجال الإسلامی الشیعی، الفکرة التی ولدت رجلاً إصلاحیًا مثل الأفغانی، وجد أن دوره لا ینبغی أن ینحصر ویتضیّق فی نطاق الجماعة، بل یجب أن یتسع ویمتد إلى نطاق الأمة التی کانت مهددة فی کیانها الجامع، ومعرضة لمخاطر التجزئة والتقسیم، أمام صعود القوة الأوروبیة الطامحة والطامعة للهیمنة والسیطرة، على المناطق العربیة والإسلامیة الغنیة بالثروات الطبیعیة.
کما کشف هذا الدور أیضًا، عن إحدى الخبرات التاریخیة المهمة المتصلة بالمجال الإسلامی الشیعی، والتی تجلت فیها فکرة الأمة والأمة الجامعة بأعلى درجاتها تمیزًا وتفوقًا، وعدت من الخبرات النموذجیة التی نادرًا ما یجود بها التاریخ الإنسانی، فقد مثّل الأفغانی فی عصره روح الأمة والأمة الجامعة، وکان مشعًا بهذه الروح المتوهّجة فی شخصیته ومواقفه وأفکاره، ومؤثرًا بهذه الروح على غیره، وعلى مَنْ حوله، وظل محافظًا على هذا الوهج إلى نهایة مشوار حیاته.
ولا أدل على ذلک، من الوصف الذی أطلقه علیه مالک بن نبی، حین وصفه بأنه یمثل ضمیر العالم الإسلامی، ومذکرًا بکلام الکاتب الجزائری علی الهمامی، الذی قال عن الأفغانی: «لسوف تذکر البلاد الإسلامیة جمیعًا اسم جمال الدین، کما تذکر بلاد الیونان اسم هومیروس بین الخالدین من أبنائها»(22).
وستظل الحاجة قائمة ومستمرة لتذکر هذه الخبرة التاریخیة للأفغانی، من أجل إحیاء فکرة الأمة الجامعة، وتجدید الصلة بهذه الفکرة فی المجال الشیعی خاصة، وفی المجال الإسلامی عامة، وأیضا لأجل تسهیل وتشجیع إمکانیة العبور من فکرة الجماعة إلى فکرة الأمة.
وتتأکد هذه الحاجة الیوم، فی ظل ما یحصل من انقسامات خطیرة تباعد بین المسلمین مذاهب ومجتمعات، وتعرّض ساحتهم إلى التمزق والتنازع والتطاحن، وتشیع بینهم الکراهیة والقطیعة والانغلاق، وبعد ما أخذت تعصف بینهم ریاح الفتن المذهبیة البغیضة، ووصل الحال بالبعض إلى الرغبة فی القتل، عن طریق التفجیرات العمیاء، التی ضربت فی الأسواق والمدارس والمساجد والکنائس وغیرها، ولسان حال العقلاء یقول إننا بحاجة إلى أفغانی جدید، یعید ربط المسلمین بأمتهم الجامعة.
فکرة التقریب بین المذاهب.. والعبور من الجماعة إلى الأمة
ما بین النصف الثانی من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرین، ظهر فی ساحة المسلمین مفهومان أساسیان لهما علاقة بمجال وحدة المسلمین، وهما مفهوم الجامعة الإسلامیة الذی کان المفهوم الأبرز فی النصف الثانی من القرن التاسع عشر، ومفهوم التقریب بین المذاهب الذی کان المفهوم الأبرز فی النصف الأول من القرن العشرین.
فکرة التقریب من الناحیة التاریخیة، هی فکرة التی حلت مکان فکرة الجامعة الإسلامیة فی مجال العلاقة بین المسلمین، وذلک بعد تلاشی دولة الخلافة العثمانیة، وغیاب السید جمال الدین الأفغانی الذی ارتبطت به فکرة الجامعة الإسلامیة، وکان المحرک لها، والمتمثل لروحها، بمعنى أن التقریب هی الفکرة التی اکتسبت أوسع شهرة بعد فکرة الجامعة الإسلامیة، ومن جانب آخر، فإن فکرة التقریب جاءت امتدادًا لفکرة الجامعة الإسلامیة، واستمرارًا للنهج الفکری والإصلاحی الذی عبرت عنه فکرة الجامعة الإسلامیة.
وکما ارتبطت فکرة الجامعة الإسلامیة بالأفغانی، ارتبطت فکرة التقریب بین المذاهب بالشیخ محمد تقی القمی (1910ـ1990م)، الذی عمل على تأسیس أول جماعة للتقریب فی العصر الحدیث، ظهرت فی النصف الثانی من أربعینیات القرن العشرین فی القاهرة.
وتکفی فی هذا الشأن، شهادة شیخ الأزهر فی عصره الشیخ محمود شلتوت (1310-1383هـ/1893-1963م)، الذی رافق تجربة دار التقریب منذ انطلاقتها، وکان أحد المؤسسیین لها، ومن الوجوه البارزة فیها، فحین تحدث عن قصة هذه التجربة، ونشأتها الأولى کتب یقول: «کنت أود لو کتب قصة التقریب أحد غیر أخی الإمام المصلح محمد تقی القمی، لیستطیع أن یتحدث عن ذلک العالم المجاهد الذی لا یتحدث عن نفسه، ولا عما لاقاه فی سبیل دعوته، وهو أول من دعا إلى هذه الدعوة، وهاجر من أجلها إلى هذا البلد، بلد الأزهر الشریف، فعاش معها وإلى جوارها منذ غرسها بذرة مرجوة على برکة الله، وظل یتعهدها السقی والرعایة بما آتاه الله من عبقریة وإخلاص، وعلم غزیر، وشخصیة قویة، وصبر على الغیر، وثبات على صروف الدهر، حتى رآها شجرة سامقة الأصول باسقة الفروع تؤتی أکلها کل حین بإذن ربها، ویستظل بظلها أئمة وعلماء ومفکرون فی هذا البلد وفی غیره»(23).
وانخرط فی هذه التجربة وساندها وعاضدها، جمع من ألمع رجال الدین المصلحین الشیعة فی العراق ولبنان وإیران، الذین صدرت منهم مواقف ورسائل داعمة ومؤیدة، ونشروا کتابات مهمة فی هذا الشأن، وتابعوا نشاطات هذه التجربة بتفاعل واهتمام، وکان فی طلیعة هؤلاء، المرجع الدینی السید حسین البروجردی (1292-1380هـ/ 1875-1961م) فی إیران، والشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء فی العراق، والسید عبد الحسین شرف الدین (1290-1377هـ/1873-1957م) فی لبنان.
وهؤلاء الثلاثة تحدیدًا، هم الذین خصهم الشیخ شلتوت بالذکر من جهة المساندة والمشارکة، وحسب قوله: لعلی «کنت أستطیع أن أتحدث عن صور لکثیرین ممن وهبوا أنفسهم لهذه الدعوة الإسلامیة، ووقفوا علیها جهودهم، وآمنوا بالتقریب سبیلا إلى دعم قوة المسلمین، وإبراز محاسن الإسلام، وغیر هؤلاء کثیرون ممن سبقونا إلى لقاء الله من أئمة الفکر فی شتى البلاد الإسلامیة الذین انضموا إلى التقریب، وبذلوا جهودهم لنشر مبادئه، وساجلناهم علمًا بعلم، ورأیًا برأی، وتبادلنا وإیاهم کثیرًا من الرسائل والمشروعات والمقترحات، وفی مقدمتهم المغفور له الإمام الأکبر الحاج آقا حسین البروجردی أحسن الله فی الجنة مثواه، والمغفور لهما الإمامان الشیخ محمد الحسین آل کاشف الغطاء، والسید عبد الحسین شرف الدین الموسوی رضی الله عنهما.
لقد تلقى أولئک الأعلام دعوة التقریب فی أول نشأتها، ففتحوا لها قلوبهم وعقولهم، وأصفوها أکرم جهودهم، حتى ذهبوا إلى ربهم راضین مرضیین، وأن لهم تاریخًا یذکر، وفضلاً یجب أن یسجل ویؤثر، وغیر هؤلاء کثیر، ولسنا بصدد العدّ والإحصاء»(24).
والملاحظ بصورة عامة، أن المسلمین الشیعة هم الذین بادروا وحرکوا فکرة التقریب بین المذاهب الإسلامیة، وکانوا الرواد فی هذا الطریق، وقدموا نتاجًا فکریًا ثریًا ولامعًا یصلح أن یؤرخ له من هذه الجهة، نتاجًا مثّل رصیدًا مهمًا فی تدعیم الموقف والمسلک الإصلاحی عند الشیعة خاصة، وعند المسلمین عامة.
وعند النظر فی تفسیر هذا الموقف من جهة المقاصد والغایات، یمکن القول إنه یتحدد فی أمرین متلازمین، الأمر الأول یتصل بتصحیح الصورة النمطیة المتوارثة والمشوهة عن المسلمین الشیعة، والأمر الثانی یتصل بالرغبة فی العبور من فکرة الجماعة إلى فکرة الأمة، والالتحام بالأمة والاندماج معها، وذلک من خلال تعزیز المعرفة والتعارف بین أتباع المذاهب الإسلامیة، وإحیاء قیم التآخی والتفاهم والتآلف، وتوثیق روابط الأخوة الإسلامیة، وتعزیز القواسم المشترکة والتوافقات العامة، ونبذ کل أشکال التعصب والتباعد والتفرق.
والشاهد فی هذا الأمر، أن فکرة الأمة والارتباط بهذه الفکرة، مثلت دافعًا أساسیًا عند المسلمین الشیعة نحو تبنّی وتحریک فکرة التقریب فی ساحة المسلمین، الفکرة التی بقیت وما زالت قائمة مع ما یحیط بها من تحدیات وإشکالیات وتشکیکات، ظهرت وصاحبت هذه الفکرة منذ انبعاثها، لکنها صمدت وبقت وستظل باقیة، مستندة فی بقائها وثباتها على أصول الإسلام العامة، وروح الأخوة الإسلامیة، وفکرة الأمة الجامعة، والمستقبل المشترک.
أما الذین حاربوا هذه الفکرة، ووقفوا ضدها فقد صنفهم الشیخ شلتوت إلى أصناف، وحسب قوله «حارب هذه الفکرة ضیقوا الأفق، کما حاربها صنف آخر، من ذوی الأغراض الخاصة السیئة، ولا تخلوا أیة أمة من هذا الصنف من الناس، حاربها الذین یجدون فی التفرق ضامنًا لبقائهم وعیشهم، وحاربها ذووا النفوس المریضة، وأصحاب الأهواء والنزعات الخاصة، هؤلاء وأولئک ممن یؤجرون أقلامهم لسیاسات مفرقة لها أسالیبها المباشرة وغیر المباشرة فی مقاومة أیة حرکة إصلاحیة، والوقوف فی سبیل کل عمل یضمن شمل المسلمین، ویجمع کلمتهم. کانوا یهاجمون الفکرة کل على طریقته، ویسممون الجو بقدر استطاعتهم، بغیة القضاء على تلک الدعوة الواضحة المبادئ والأرکان، القائمة على العلم والدراسة والبحث، الداعیة إلى فتح المجال أمام الدلیل من أی أفق طلع»(25).
قضیة فلسطین.. والعبور من الجماعة إلى الأمة
فی العقود الثلاثة الأخیرة، وتحدیدًا منذ انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران مطلع ثمانینیات القرن العشرین، حصل تطور مهم وکبیر فی شکل علاقة المسلمین الشیعة بقضیة فلسطین، لعله التطور الأهم فی تاریخ علاقة المسلمین الشیعة بهذه القضیة فی العصر الحدیث، فقد ظهر هؤلاء فی الموقف المساند والمناصر والداعم بشدة للقضیة الفلسطینیة، وبصورة لفت وأثار انتباه الجمیع، ووضع هذا الموقف فی دائرة الضوء والاهتمام.
کما ظهر هؤلاء أیضًا، فی الموقف الذی یضعهم ضمن ما عرف بتیار المقاومة والممانعة المساند بشدة للقضیة الفلسطینیة، والرافض بشدة للمشروع الإسرائیلی فی فلسطین والمنطقة العربیة والإسلامیة عامة، وهذا ما یعرفه الفلسطینیون قبل غیرهم بوصفهم الصدیق، وما یعرفه الإسرائیلیون أیضًا بوصفهم العدو، الذین یعتبرون إیران وحزب الله یمثلون لهم أکبر وأخطر تهدید لوجود کیانهم المحتل ومستقبله.
وما حصل لإسرائیل فی لبنان، مثّل لهم أکبر شعور بالهزیمة، وقلب صورتها، صورة الدولة القویة، وصورة جیشها الذی لا یقهر، وهذا من أکثر ما تخشاه إسرائیل التی لا تتحمل الشعور بالهزیمة، الشعور الذی سیکون من الصعب علیها محوه أو نسیانه إلى زمن غیر قصیر، فهی لا ترید أن تسجل فی تاریخها، ویعرف عنها الأجیال القادمة، أنها تعرضت لهزیمة من العرب، ومن جماعة صغیرة ولیس من دولة قویة، وخطر ذلک أنه یضع إسرائیل أمام بدایة مسار التقهقر.
إلى جانب أن إسرائیل لا تحتمل اهتزاز صورة الدولة القویة فی رؤیتها إلى ذاتها، ورؤیة العالم لها، وهی التی ظلت تقدم نفسها إلى شعبها، وإلى العالم الغربی بوصفها الدولة القویة التی هزمت جیوش العرب مجتمعة فی جمیع حروبها، وهکذا بالنسبة لصورة جیشها الذی عززت فیه روح الجیش الذی لا یقهر، لکونها الکیان الذی اعتمد على الجیش فی قیامه، بخلاف ما کان سائدًا من أن الجیش لا یقوم إلا بعد قیام الدولة.
وقد برهن المسلمون الشیعة بهذه المواقف الساندة، وبهذه الانتصارات العظیمة، أنهم یقفون مع الأمة صفًا واحدًا للدفاع عن قضیة المسلمین الأولى قصیة فلسطین، ومواجهة العدو المشترک للمسلمین کافة العدو الإسرائیلی، وکانوا فعلاً بحاجة إلى هذه المواقف والانتصارات التی تضعهم فی قلب الأمة، وتجعل منهم جزءًا أصیلا وفاعلا فی نسیج الأمة الواحدة والجامعة.
الشیخ شمس الدین.. وتغلیب فکرة الأمة
یعد الشیخ محمد مهدی شمس الدین (1354-1421هـ/1936-2001م)، أحد أکثر رجال الدین الشیعة المعاصرین تأکیدًا على فکرة الأمة والأمة الواحدة، الفکرة التی ظلت حاضرة فی أحادیثه ومحاضراته، وفی کتاباته ودراساته الفکریة والفقهیة، ومثلت له مبدأ ثابتًا، وإطارًا مرجعیًا یستند إلیه، وینطلق منه، ویحتکم إلیه، ویفاضل به.
ومن شدة عنایته وقناعته بفکرة الأمة، ابتکر الشیخ شمس الدین نظریة تتصل بمجال الفقه السیاسی الإسلامی، أطلق علیها نظریة (ولایة الأمة على نفسها)، وهی النظریة التی تحمس لها، وتمسک بها، ودافع عنها، ورأى فی هذه النظریة کشفًا فقهیًا، وأنه أول من توصل إلیها، وتحدث عنها، وحسب قوله: «لقد وفقنا الله تعالى لکشف فقهی فی هذا المجال، لا نعرف فی حدود إطلاعنا، من سبقنا إلیه من الفقهاء، والحمد لله والشکر له على کل نعمة ظاهرة وباطنة، إن نظریتنا الفقهیة السیاسیة لمشروع الدولة، تقوم على نظریة ولایة الأمة على نفسها»(26).
کما یعد الشیخ شمس الدین أیضًا، أحد أکثر رجال الدین الشیعة المعاصرین، تنبهًا وتأکیدًا على ضرورة انتقال المسلمین الشیعة من فکرة الجماعة إلى فکرة الأمة، ومن العمل فی إطار الجماعة إلى العمل فی إطار الأمة، وکان شدید الوعی والإدراک بهذه القضیة، التی ظل یدفع بها، وینبه علیها، ویعمل من أجلها.
هذا الوعی والإدراک نشأ وتعزز عند الشیخ شمس الدین، بحکم موقعه فی رئاسة المجلس الإسلامی الشیعی الأعلى فی لبنان، الذی أتاح له من جهة، تکوین المعرفة بواقع وأحوال المسلمین الشیعة فی مناطقهم ومجتمعاتهم العربیة والإسلامیة، کما أتاح له من جهة أخرى، إمکانیة التواصل مع شریحة کبیرة من المسلمین السنة رجال دین ومفکرین وسیاسیین وشخصیات عامة.
إلى جانب أن طبیعة المجتمع اللبنانی، والحیاة اللبنانیة بصورة عامة، أسهمت فی نشأة وتعزیز هذا الوعی والإدراک عند الشیخ شمس الدین، فالمجتمع اللبنانی المنقسم فی داخله إلى طوائف وجماعات وکیانات لها طبیعة مذهبیة، وما تولدت منه من حساسیات واحتکاکات، ونزاعات وحروب، الوضع الذی ظل یلفت الانتباه دائمًا إلى ضرورة الانتقال من هذا الانقسام الطائفی، والخروج من دائرة الطائفة والجماعة، إلى دائرة الأمة والکیان الجامع.
یضاف إلى ذلک، أن الثقافة المنفتحة عند الشیخ شمس الدین، وتجربته الفکریة والثقافیة التی اتسمت بالانفتاح والتواصل مع النخب الفکریة والدینیة الشیعیة والسنیة وحتى المسیحیة، أسهمت کذلک فی تکون ذلک الوعی والإدراک.
وفی نطاق هذا المنحى، بادر الشیخ شمس الدین إلى طرح العدید من الرؤى والأفکار التی تدفع باتجاه التحول والعبور من فکرة الجماعة إلى فکرة الأمة، ومن هذه الرؤى والأفکار اعتباره أن قضیة وحدة الأمة هی من المقدسات، ولیست من السیاسات، أی إنها بمنزلة التکالیف الشرعیة مثل الصلاة والصوم والزکاة، وعلى هذا الأساس فنحن مکلفون حسب رأیه بوحدة الأمة(27).
ویتصل بهذا الموقف الفقهی، نقده لما أسماه بالسیاسات التی دمرت شعور المسلم العادی بأنه جزء من أمة، ورسخت فیه الشعور الذی یصور له بأنه جزء من طائفة، أو جزء من مذهب، وهذا خلاف المسلمات الفقهیة السیاسیة ـ حسب قوله ـ فی وحدة دار الإسلام، ووحدة أمة الإسلام(28).
ولتصحیح هذا الشعور عند الإنسان المسلم العادی، اقترح الشیخ شمس الدین إدراج مادة الأمة الإسلامیة، بوصفها مادة أساسیة فی جمیع مراحل التعلیم من الابتدائیة إلى الجامعة، لتکوین ذهنیة المسلم بطریقة واعیة فی ارتباطه بالأمة الإسلامیة(29).
وإدراکًا منه بطبیعة التعقیدات التی تحیط بهذه القضیة، اقترح سنة 1987م إنشاء مرکز دراسات للوحدة الإسلامیة، یتخصص فی دراسة قضایا الوحدة الإسلامیة بعمق ومسؤولیة وواقعیة، وبعیدا عمّا أسماه روح المحاباة، أو الخوف، أو الانخداع بالحلم السحری(30).
وحینما توجه فی دراساته وأبحاثه نحو الفقه، لم یهمل الشیخ شمس الدین هذه القضیة، فقد دعا سنة 1990م لوضع باب فقهی خاص بوحدة الأمة، یبحث عن حدود وحدة الأمة وإطارها، والعلاقة بین وحدة الأمة والتنوع القومی واللغوی فی المجتمعات الإسلامیة، وما مدى إلزامیة هذه الوحدة على المستوى الحقوقی والقانونی الإسلامی العام(31).
وفی هذا النطاق کذلک، أکد الشیخ شمس الدین على مبدأ الأخوة الإسلامیة فی أن یکون دلیلا للفقیه عند بحث واستنباط أحکام العلاقات بین المسلمین جماعات وأفرادًا، فهذا المبدأ حسب تقدیره ثابت بالنسبة لجمیع المسلمین على اختلاف مذاهبهم، وانتقد من جهة أخرى الفتاوى التی لا تلاحظ مبدأ علاقة الأمة التفاعلیة، وعلاقة المجتمع التفاعلیة بین أفراده، فتعطی حقوقًا، وتشرع أوضاعًا للأفراد، بمعزل عن مدى تأثیر ذلک فی وحدة ومصالح الأمة(32).
إلى جانب ذلک حاول الشیخ شمس الدین، أن یضع میثاقًا إسلامیًا لقضایا الوحدة والتقریب، وأراد من هذا المیثاق أن یکون مشروع رؤیة تنهض بها هیئة إسلامیة تعنى بهذه القضایا، وحمل هذا المیثاق عنوان (صیاغة أولیة لمیثاق تأسیسی لهیئة قضایا الوحدة والتقریب)، وحدد الأساس الأول فی هذا المیثاق بقوله: «إن المسلمین اتفقوا على أمر جامع یوحدهم فی دائرة الإسلام، وعلى هذا الأساس یتشکل منهم جمیعًا کیان الأمة، وینتزع من هذا الواقع مفهوم الأمة الإسلامیة، الذی ثبت له فی الشرع أحکام شرعیة وضعیة وتکلیفیة. إن الثوابت الکبرى فی الإسلام التی أجمع المسلمون على الإیمان بها، والالتزام بها هی أساس الإسلام، إذ إن المسلم هو من آمن والتزم بها، وأن من أنکرها أو أنکر بعضها لیس مسلمًا، وهذه مواضع وفاق بین المسلمین، وبهذا یتبین أن الواقع التنظیمی للأمة هو الوحدة».
وحینما بحث فی موضوع الجهاد من ناحیة فقهیة استدلالیة، توصل الشیخ شمس الدین حسب قوله: إلى أن «الجهاد هو تشریع للأمة ولیس للأفراد، ولکن العقلیة الفردیة التی حکمت على الفقهاء أن یروا فی خطابات الجهاد ما سموه الخطاب الکفائی، أی حکم الأفراد. ولقد توصلت إلى رأی مفاده أن خطابات الجهاد لیست واجبات کفائیة بل هی واجبات عینیة، ولکن لیس على الأفراد وإنما على الأمة»(33).
وفی هذا السیاق جاء کتابه جهاد الأمة، والذی تقصّد فیه الشیخ شمس الدین أن یبرز فکرة الأمة فی عنوانه، ولیؤکد على علاقة الجهاد بفکرة الأمة، وقد سمعته فی أکثر من مناسبة یتحدث باهتمام عن هذا الکتاب، وأنه یتضمن ابتکارات جدیدة، محورها ربط الجهاد بفکرة الأمة.
ویتصل بهذا المحنى أیضًا، دعوته إلى ما أطلق علیه مصالحة الأمة مع نفسها، لتکون فی مستوى مواجهة المشروع الصهیونی، وانسجامًا وتوافقًا مع هذا المسلک فی مصالحة الأمة مع نفسها، جاء تأکید الشیخ شمس الدین على ضرورة اندماج المسلمین الشیعة فی أوطانهم، الضرورة التی أکدها وباهتمام فی کتابه الوصایا، بقوله «أوصی أبنائی وإخوانی الشیعة الإمامیة فی کل وطن من أوطانهم، وفی کل مجتمع من مجتمعاتهم، أن یدمجوا أنفسهم فی أقوامهم، وفی مجتمعاتهم، وفی أوطانهم، وألا یمیزوا أنفسهم بأی تمییز خاص، وألا یخترعوا لأنفسهم مشروعًا خاصًا یمیزهم عن غیرهم»(34).
هذه الرؤى والأفکار والمواقف أکسبت الشیخ شمس الدین وخطابه الفکری تمیزا، خاصة من جهة الانفتاح والتواصل مع فکرة الأمة، الفکرة التی حاول الانتصار لها، وتغلیبها على فکرة الجماعة.
هذه بعض المحطات المهمة والمؤثرة والمتعاقبة زمنیًا، والتی تکشف عن أن الاتجاه نحو فکرة الأمة کان حاضرًا وممتدا ومؤثرًا فی ساحة الفکر الإسلامی الشیعی، وجاء هذا الکشف بقصد تأکید الأطروحة التی تقدم فکرة الأمة على فکرة الجماعة، واعتبار أن فکرة الأمة هی الخیار والاختیار الصائب الذی یضمن للمسلمین الشیعة تقدمهم فی المجالین الخاص والعام، ویفتح لهم أفق الأمة الواسع، ویخرجهم من أفق الجماعة الضیق، وأن لا خشیة على أنفسهم من هذه الجهة، بل الخشیة حین یتراجعون عن هذا الخیار، وینظرون لأنفسهم من منظور الجماعة، وبعیدًا عن منظور الأمة.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ انظر: عبد الأمیر مهنا وعلی خریس، جامع الفرق والمذاهب الإسلامیة، بیروت: المرکز الثقافی العربی، 1992م.
2ـ محمد بن عبد الکریم الشهرستانی، الملل والنحل، تحقیق: محمد عبد القادر الفاضلی، صیدا- بیروت: المکتبة العصریة، 2003م، ص9-10
3ـ سورة الأعراف، آیة: 164.
4ـ سورة القصص، آیة: 23.
5ـ سورة البقرة، آیة: 143.
6ـ سورة آل عمران، آیة: 110.
7ـ سورة الأنبیاء، آیة: 92.
8ـ سورة المؤمنون، آیة: 52.
9ـ محمد الریشهری، میزان الحکمة، قم: دار الحدیث، 1422هـ، ج2، ص608-615.
10ـ أحمد کمال أبو المجد، حوار لا مواجهة، القاهرة: دار الشروق، 1988م، ص270.