لا یمکن دراسة الفتن الطائفیة التی تمرّ على العالم الإسلامی الیوم بمعزل عن دراسة الواقع المتخلف للأمة، ولا یمکن فهم طبیعة هذا التخلف دون فهم التراکمات التاریخیة التی جرّت على الأمة هذه الحالة.فی هذا المقال نستعرض سریعًا کل ذلک، مع مواقف الإصلاحیین لتدارک هذه الحالة، والفرص التی ضیّعها المسلمون من أجل استعادة وجودهم والتخلّص من تخلّفهم، ومع تقدیم تحلیل لواقعنا نقدّم بعض الاقتراحات التی نراها ضروریة للتغلب على مآسی العالم الإسلامی...
لا یمکن دراسة الفتن الطائفیة التی تمرّ على العالم الإسلامی الیوم بمعزل عن دراسة الواقع المتخلف للأمة، ولا یمکن فهم طبیعة هذا التخلف دون فهم التراکمات التاریخیة التی جرّت على الأمة هذه الحالة.فی هذا المقال نستعرض سریعًا کل ذلک، مع مواقف الإصلاحیین لتدارک هذه الحالة، والفرص التی ضیّعها المسلمون من أجل استعادة وجودهم والتخلّص من تخلّفهم، ومع تقدیم تحلیل لواقعنا نقدّم بعض الاقتراحات التی نراها ضروریة للتغلب على مآسی العالم الإسلامی.
السیاسة والحوار والتفاهم أو الاختلاف:
إذا کان المعنى التقلیدی لفعل «ساس» دبر الأمر ونظمه، فإن ذلک لا یتوقف عند هذا الحد بل یتعداه إلى حصریة خاصة بالإنسان العاقل دون سواه. یقول عثمان خلیل عثمان: «یتمیز الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل، وینتج العقل المدبر أو المتأمل نتاجًا على قدر متفاوت من التنظیم نسمیه فکرًا، وإذا ما تعلق هذا الفکر بالجماعة العامة کان فکرًا سیاسیًا»([1]).
والفکر السیاسی، البشری، إنما هو تراکمی، أسهمت فیه کل الأمم والعقول عبر التاریخ، إنه «نتاج العقل الإنسانی المتنوع بذاته وبمؤثراته» لذلک «فإنه لا یمکن بحال فصل حاضره عن ماضیه،أو الفصل فیه بین مکان ومکان، فمفکرو هذا العصر الحدیث لا یعرضون ثمرة الفکر البشری التی نعرفها مجتمعًا کوحدة متماسکة منذ بدء البشریة، بل التی لا نعرفها، ذلک لأن أقدم ما نعرفه من الجماعات البشریة التی ساهمت فی الفکر الإنسانی، إنما تأثرت حتما بفکر من سبقها أو عاصرها من الجماعات التی لم نعرفها بعد»([2]).
والفکر السیاسی هو الأکثر عراقة وکأنه «أسبق صور الفکر جمیعًا» وهو «أکثر أنواع الفکر البشری نسبیة أو اعتباریة» بسبب «اتصاله الوثیق بکیان الفرد وبحریاته وحقوقه العامة»([3]).
إن دور العقل لم یغفله المسلمون الأوائل، فالقرآن الکریم شدّ انتباه الإنسان إلى قدرة العقل الذی هو مناط التکلیف وأن من یفتقده غیر مکلف، کما أنه، أی القرآن الکریم،عبر الإخبار عن معجزات الأنبیاء والرسل ذهب بالعقل بعیدُا حیث کمال المادة. إن ضرب موسى علیه السلام الصخرة بالعصا وتفجر الماء، أو شفاء المرضى حتى إحیاء الموتى بإذن الله تعالى.. کل ذلک وغیره بیّن کم فی هذا الکون من طاقات وقدرات وإمکانیات، والسبیل إلى تحصیلها یکون فقط عن طریق العقل والتدبر والاتعاظ من تجارب الأمم السابقة، عبر القصص القرآنی. کما أن الحدیث الشریف أکد ذلک من خلال تأکید الرسول(ص) نفسه إلى أن الحکم الذی یصدره إنما هو المسؤول عنه، وأنه یتأثر بقدرة المتخاصمین على الإدلاء بحجتهم طبقًا لقدرة أحدهم أو کلهم التأثیر على موازین الحکم عند القاضی، قال (ص) : «إنکم تختصمون إلیّ، ولعل بعضکم أن یکون ألحن بحجته من بعض،فأقضی له على نحو مما أسمع منه...» ([4]).
وفی روایة أخرى: «إنما أنا بشر، وإنه یأتینی الخصم، فلعل بعضهم أن یکون أبلغ من بعض،فأحسب أنه صادق،فأقضی له...» ([5]).
إن الحکم الذی یصدره حاکم ما إنما هو حکمه ولیس حکم الله تعالى، لذلک فله أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ([6]) قال: «لا یحکم أحد بین اثنین وهو غضبان»([7]) وفی حدیث آخر یتبین أن الحکم فی أمر ما إنما هو تبع لقدرة مصدره على الفهم والتبصر فی الأمور قال (ص) «.... وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوک أن تنزلهم على حکم الله،فلا تنزلهم على حکم الله،لکن أنزلهم على حکمک، فإنک لا تدری أتصیب حکم الله فیهم أم لا»([8]).
هکذا فالإنسان وقدراته، والمسألة لا تعدو أکثر من منهجیة أی برمجة لهذا العقل الذی سیتمثل ما وصله عکسًا وطردًا وفق قدراته الفطریة أولاً، وهذا متأثر بعاملی الوراثة (البیولوجیا) والبیئة بدءًا من مرحلة الجنین حتى الطفولة مرورًا بکل مراحل التربیة ومؤثراتها الاجتماعیة، ولهذا فإننا لا نجد کل صحابة الرسول(ص) فی مستوى واحد.. إن النص وحده لا یمکن أن یحقق مقصده بل لابد له من وعاء یتمثله ثم یبلغه الوجهة التی کان من أجلها.. والوعاء هنا هو عقل من یحمل هذه المهمة ویدبر أمرها،لقد کانت نسخ القرآن الکریم محدودة، تعد على الأصابع فی صدر الإسلام، والیوم، لیس مبالغًا القول: إنه مقابل کل مسلم توجد نسختان من کتاب الله عزوجل،والحال کما هی،لا بل فإنها فی تدهور مستمر... وفی تآکل إلى حد التناحر کما هو حاصل بین المسلمین فی کل دوائرهم المتداخلة،سنة وشیعة فی الدائرة الأوسع، وأتباع هذا المذهب الإعتقادی أو ذاک، هذه المدرسة أو تلک، هذا الشیخ أو غیره...
والمدخل الذی رکز على التفاوت فی قدرات عقول البشر، کما رکز على طریق الفهم، أی الشروحات والمناهج المتبعة فی استخراج الأحکام وحل المشاکل والتخطیط لیوم غد.. یهدف إلى رسم صورة متکاملة لعجز العالم الإسلامی عن مواجهة التحدیات السیاسیة بما تحمله من عوامل اقتصادیة واجتماعیة، ومن ثم تأزم أوضاعهم داخلیًا إلى حد بلغ غایة الخطورة، وهذا ما سیتم الترکیز علیه فی هذا البحث المتواضع، وأما الأبعاد فإنه بالإمکان التعرف على ملامحها ولو بالإیحاء...
أولاً: بذور الاختلاف بین المسلمین:
أ ـ الاختلاف من طبیعة البشر
یقول محمد أبو زهرة: «إن من الحقائق الثابتة أن الناس یختلفون فی تفکیرهم.وإذا کان العلماء یقولون: إن الإنسان من وقت نشأته أخذ ینظر نظرات فلسفیة إلى الکون، فلابد أن نقول إن الصور والأخیلة التی تثیرها تلک النظرات تختلف فی الناس باختلاف ما تقع علیه أنظارهم وما یثیر إعجابهم. وکلما خطا الإنسان خطوات فی سبیل المدنیة والحضارات اتسعت فجوات الخلاف حتى تولدت من هذا الخلاف المذاهب الفلسفیة والاجتماعیة والاقتصادیة المختلفة»([9]).
وقد رد أسباب الاختلاف إلى:
1 – غموض الموضوع فی ذاته: «إن الحق لم یصبه الناس فی کل وجوهه ولا أخطأه فی کل وجوهه، بل أصاب کل إنسان وجهه» وأحیانًا یکون الاختلاف بسبب عدم معرفة کل طرف وجهة نظر الآخر.
3- تقلید السابقین: یحصل ذلک «من غیر أن ینظر المقلدون نظرة عقلیة مجردة...وإنه ینشأ عن التقلید المتعصب، فإن قدسیة الآراء التی یقلدها الشخص تدفعه إلى التعصب لها، وحیث کان التعصب الشدید کان الاختلاف الشدید.
4- الریاسة وحب السلطان: «خصوصًا فی المناهج السیاسیة، فإن کثیرًا ممن یرغبون فی السلطان ینتهون إلى آراء تتعلق بالحکم، هی منبعثة من رغباتهم الخاصة، ویندفعون فی تأییدها حتى یخیل إلیهم أنهم مخلصون فی ما یَدْعون إلیه، وإن ما یقولونه هو محض الحق والصواب»([10]).
خلاصة القول إن الاختلاف من طبیعة البشر «...وإن من العبث کل العبث أن یراد صب الناس کلهم فی قالب واحد فی کل شیء، وجعلهم نسخًا مکررة» إلا أن هذا الاختلاف یجب أن یکون: «اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والتنوع دائمًا مصدر إثراء وخصوبة، وهو آیة من آیات الله الدالة على عظیم قدرته وبدیع حکمته: >وَمِنْ آیَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِکُمْ وَأَلْوَانِکُمْ إِنَّ فِی ذَلِکَ لَآیَاتٍ لِّلْعَالِمِینَ ([11]).
إن الاختلاف بین البشر من مستلزمات بقاء الکون وإعماره وإلا السکون ثم الفناء. وعلى البشر عامة والمسلمین قبل غیرهم أن یدرکوا ذلک، یقول تعالى: >وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَیَسُبُّواْ الله عَدْوًا بِغَیْرِ عِلْمٍ کَذَلِکَ زَیَّنَّا لِکُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَیُنَبِّئُهُم بِمَا کَانُواْ یَعْمَلُونَ< (سورة الأنعام:108).
إن هاتین الآیتین الکریمتین تشملان تصورًا واضحًا لطبیعة العلاقات بین الأمم، وإلى أن الاختلاف بینهم ثابت ومستمر ولم یحسم أمره حتى یرث الله تعالى الأرض ومن علیها».
ونحن فی هذا الکون «بمقدار فهمنا لطبیعة الوجود نتمکن من تحقیق الانسجام فی کامل جوانب حیاتنا الاجتماعیة والنفسیة والسیاسیة، وأکثر من ذلک یمکننا أن نتعامل بهدوء وراحة تامة مع الفهم السدید لواقع الآخرین وطبائعهم حیاة وفکرًا وتصورًا([12]).
ب – آفة الاختلاف:
إن هذا الکون یعمر بالتدافع والتنافس إلى حد الصراع أحیانًا ولیس فیه خیر مطلق ولا شر مطلق، فکل ما فیه من مسلتزمات اضطراد وجوده، والشر ینتج عن الخطأ فی الأداء أو فی التحلیل والمزج والترکیب، فاللسان أداة الخیر والخطأ فی استعماله مدعاة لإحداث شر وکذا السمع والبصر والفؤاد. قال تعالى: >وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً، وَلاَ تَمْشِ فِی الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّکَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ، کُلُّ ذَلِکَ کَانَ سَیٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّکَ مَکْرُوهًا< (سورة الإسراء: 36 – 38). فالحق باق والباطل کذلک، ولا یُخرج أحدهما الآخر نهائیًا من هذا الکون، بل إن سنة الله تعالى أن یتداولا.
الفعل والسیطرة بعلو أحدهما على الآخر > وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ کَانَ زَهُوقًا < (سورة الإسراء: 81).
وقال تعالى: > بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَیَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ< (سورة الأنبیاء:18)، وإن کان ظاهر المعنى أنه ذاهب نهائیًا إلا أنه على الأرجح یتراجع ویتضح ذلک من الفعل «فیدمغه» أی یقهره وهذا منضوٍ تحت سنّة التداول: > وَتِلْکَ الأیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیْنَ النَّاسِ ([13]).
فالمسألة إذًا تخضع للسنن التی تسیّر هذا الکون. ومن أفدح الأخطاء:
1 – الهوى المؤدی إلى الکذب:
لقد أبدع ابن خلدون فی شرحه عوامل الهدم للمجتمع الإنسانی الذی یخرجه من حال العمران إلى الهدم یحدث ذلک بالأخطاء المرتکبة فی تلقی الخبر ومرد ذلک إلى:
« التشیعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا کانت على حال الاعتدال فی قبول الخبر أعطته حقه من التمحیص والنظر حتى تتبین صدقه من کذبه، وإذا خامرها تشیع لرأی أو نحلة قبلت ما یوافقها من الأخبار لأول وهلة، وکان ذلک المیل والتشیع غطاء على عین بصیرتها عن الانتقاد والتمحیص فتقع فی قبول الکذب ونقله».
«ومنها الذهول عن المقاصد فکثیر من الناقلین لا یعرف القصد بما عاین أو سمع وینقل الخبر على ما فی ظنه وتخمینه فیقع فی الکذب».
«ومنها توهّم الصدق وهو کثیر، وإنما یجیء فی الأکثر من جهة الثقة بالناقلین».
«ومنها الجهل بتطبیق الأحوال على الوقائع لأجل ما یداخلها من التلبیس والتصنع فینقلها المخبر کما رآها وهی بالتصنع على غیر الحق فی نفسه».
«ومنها تقرب الناس فی الأکثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسین الأحوال وإشاعة الذکر بذلک، فیستفیض الإخبار بها على غیر حقیقته فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلّعون إلى الدنیا وأسبابها من جاه أو ثروة، ولیسوا فی الأکثر براغبین فی الفضائل ولا متنافسین فی أهلها».
«ومن الأسباب المقتضیة له أیضًا وهی سابقة على جمیع ما تقدم: الجهل بطبائع الأحوال فی العمران فإن کل حادث من الحوادث ذاتًا کان أولا فعلا لابد له من طبیعة تخصه فی ذاته وفی ما یعرض له من أحواله، فإذا کان السامع عارفًا بطبائع الحوادث والأحوال فی الوجود ومقتضیاتها أعانه ذلک فی تمحیص الخبر على تمییز الصدق من الکذب وهذا أبلغ فی التمحیص من کل وجه یعرض»([14]).
إذا کان تشخیص ابن خلدون جامعًا مانعًا لعوامل الفتک فی المجتمع البشری فإن السبب الأخیر هو الجهل «بطبائع الأحوال فی العمران» وأن لکل حادث أو فعل طبیعة تخصه فی ذاته سیکون محور البحث عن التحدیات السیاسیة التی أزمّت المجتمع الإسلامی عامة مما أدى إلى اضطراب فی کل حلقات سلسلته الطویلة ودوائره المتداخلة ومنها سوء العلاقة بین أصحاب المذهب.
2- التحدیات السیاسیة
على طریق التأزم:
لقد بلغ المسلمون فی ریادتهم للکون أغلب المعمورة فی اتجاهاتها الأربعة ما عدا تلک التی لم تکن قد اکتشفت کما یجب، وبالتالی فإن أخصب المناطق کانت فی أیدیهم أدى إلى ثراء ألقى بتبعاته على الأجیال المتعاقبة، أنه لیس هناک ما یتهددهم فالمناطق التی کانت خارج سیطرتهم المباشرة کان أهلها غارقین بالجهل والصراعات الداخلیة، ویعیشون فی مساحة قد لا تزید على دولة مثل السودان فی الوقت المعاصر، کل ما حولهم لغیر صالحهم، فالمسلمون على الأبواب والجلید یقتطع قسما کبیرًا من أراضیهم والضباب وسوء المناخ، والإنسان یفتش عن مخرج،فکما هو معلوم إن المخاطر مدعاة إلى التیقظ والبحث عن حل،بینما یُسر الحال والغنى المفرط یؤدی إلى الإسراف وبالتالی التراخی والإهمال.
لقد أجهد مفکرو أوروبا أنفسهم لإکتشاف الحلول وفق المعطیات المتوفرة لدیهم، فوسعوا مساحة الأرض الصالحة للسکن ببناء طوابق متعددة، وفتشوا عن طریقة لاستخدام الأراضی الزراعیة على مواسم متعددة، وبنوا السدود فأمنوا استقرار الاقتصاد الذی بقی فی المشرق الإسلامی مرهونًا لسنوات الجفاف والمطر، مع ما یترتب على ذلک من تدمیر للاقتصاد المعتمد على الزراعة وتربیة المواشی. ثم التفت الأوروبیون إلى الصناعة بدءًا من تحسین غزل النسیج الذی أصبح یشد المستهلک إلى الصناعة الأوروبیة بدلا من تلک التی کانت حکرًا على الشرق، الذی تحول إلى منتج ومصدر للمادة الخام من القطن والحریر، وبعد فترة تحول المزارعون إلى العجز بسبب تلک النهضة الأوروبیة التی کاتن شمولیة فی کل مرتکزات المجتمع، لقد أجهد علماؤهم العقل فی تطویر المؤسسات السیاسیة والأنظمة الاقتصادیة والتقدم فی مضمار الطب لمعالجة مرضى الطاعون الذی بقی سببًا أساسیًا فی الحؤول دون تزاید عدد السکان إذا لم یؤد إلى تناقصه، فعلى سبیل المثال: «فإن القاهرة قد تعرضت لانتشار الطاعون ثمانی مرات على الأقل فی القرن السابع عشر،وخمس مرات أخرى فی القرن الثامن عشر» وهذا ما أدى «إلى هلاک ما یتراوح بین ثلث ونصف سکان المدینة، وأغلب الظن أنه مع تکرار هذه الکوارث لم تکن تتاح للسکان الفرصة للإفاقة من هجمة من هجمات الطاعون قبل أن تأتیهم الهجمة التالیة». ویذکر أن هذا المرض «أصاب مدینة حلب خمس مرات فی الفترة ما بین 1719 – 1760 – 1762م کما أصاب دمشق أربع مرات فی الفترة ما بین 1691 – 1692 – 1731 – 1732م کما أن الزراعة تراجعت نتیجة للحکم الإقطاعی وما نتج عنه من فوضى أمنیة أدت ألى هجرة الریف إضافة إلى الضرائب والعشر، کون الدولة هی مالک الأراضی، والوضع الصحی فإنه على سبیل المثال کان فی عام 1720 بین کل ثلاثة واحد فقد عینه، وبین کل عشرة واحدة مصاب بالعمى الکامل فی مصر وأن معدل الوفیات کان تعد بـ 2/26 فی الألف وبین سکان فلسطین المسلمین بـ 28 فی الألف بینما کانت هذه النسبة فی إنکلترا لا تتجاوز 3. 12 فی الألف ومتوسط الأعمار فی الثلاثینیات فی القرن العشرین للذکور فی مصر 31 سنة، وهذا المعدل کان نفسه فی إنکلترا فی أواخر القرن الثالث عشر وأنه «حیث نجد: أن واحدا فقط بین کل أربع من الفلسطینیین المسلمین، وواحدًا فقط من بین کل ثلاثة مصریین کان یصل إلى سن العشرین من العمر،بینما کان یصل إلى هذه السن ثلاثة أشخاص من بین کل أربعة أولاد فی إنکلترا»([15]).
هکذا باختصار یمکن قراءة التحول الذی حصل فی أوروبا بدءًا مما ذکر مرورًا باکتشاف الطاقة ومد سکک الحدید وتطویر وسائل النقل وتحسین الزراعة وتهجین البذور ثم الثورة الصناعیة وصولا إلى کل التقدم الذی أحرزوه فی مجال التکنولوجیا والاتصالات دون إغفال دورهم فی القضاء على الأمراض المعدیة مثل داء الکلب والسل والملاریا والجدری إلى آخر مکتشفاتهم فی عالم الطب والجراحة وزرع الأعضاء. بینما کان الأمر فی المقلب الآخر یدور حول قضیة واحدة لا ثانی لها من هو السلطان؟ من هو الآمر الأول؟ والمتنافسون یتساقطون قتلاً أو سجنًا أو نفیًا وهم یناضلون من أجل الاستحواذ على رأس السلطة وإذا ما حاولوا التفکیر فی الأسباب التی أدت إلى سوء الأحوال ردوا ذلک إلى السلطان والحاکم الأول، ولی الأمر،هکذا بکل بساطة، لهذا کانوا یستشهدون بینما استطعم غیرهم من الفلاسفة الأوروبیین لذة الاستشهاد بحثًا عن اکتشاف نظریة علمیة تشبع جائًعا وتلبی حاجة وتؤسس لنظام سیاسی واجتماعی یخرجشعوبهم من ضیق المساحة التی کانوا یعیشون فیها إلى أرض الله الواسعة، مستردین زمام المبادرة، وموجات التقدم والتطور عندهم إنما تبعث من داخل مراکز الأبحاث التی ترعاها الدولة والشرکات المنتجة وأصحاب التجارة ورؤوس الأموال.
هذه ملامح نشوء حالة التأزم فی عالمنا الإسلامی الذی مضت علیه سنة البناء والهدم التی أبدع فی تصویرها ابن خلدون فی کتابه المقدمة.
خیر الدین التونسی العالم الذی خسر المسلمون نصائحه:
لعل الزمان لم یخل من مصلح ثاقب النظر إلا أن ابن خلدون وخیر الدین التونسی قلّ مثیلهما فی التاریخ. ولقد خسر العالم الإسلامی فرصة الإفادة من مقدمة ابن خلدون فحوّلوه إلى مجرد کتاب من جملة التراث الأدبی، ویومها کان الأمر مقبولاً إلى حد ما، لکن إدارة ظهرهم لما کتبه خیر الدین التونسی 1819 – 1889م کان ضربة ممیتة، إنه بدون مبالغة شخّص المشکلة باکرًا فی وقت کان بالإمکان تدارکها فصدّر کتابه بباعثین:
«أحدهما إغراء ذوی الغیرة والحزم، من رجال السیاسة والعلم، بالتماس ما یمکنهم من الوسائل الموصلة إلى حسن حال الأمة الإسلامیة،وتنمیة أسباب تمدنها بمثل توسیع دوائر العلوم والعرفان، وتمهید طرق الثروة من الزراعة والتجارة، وترویج سائر الصناعات، ونفی أسباب البطالة. وأساس جمیع ذلک حسن الأمارة المتولد منه الأمن، المتولد منه الأمل، المتولد منه إتقان العمل المشاهد فی الممالک الأورباویة بالعیان، ولیس بعده بیان».
«ثانیهما تحذیر ذوی الغفلات من عوام المسلمین عن تمادیهم فی الإعراض عما یحمد من سیرة الغیر، الموافقة لشرعنا، بمجرد ما انتقش فی عقولهم من أن جمیع ما علیه غیر المسلم من السیر والتراتیب ینبغی أن یهجر...حتى أنهم یشدّدون الإنکار على من یستحسن شیئًا منها».
وأستغرب کیف أن السلف الصالح أخذ علم المنطق وترجم کتب الإغریق القدامى «لما رأوه من الآلات النافعة،حتى قال الغزالی: من لا معرفة له بالمنطق لا یوثق بعلمه». ثم یتساءل «فأی مانع لنا الیوم من أخذ بعض المعارف التی نرى أنفسنا محتاجین إلیها غایة الاحتیاج فی دفع المکائد وجلب الفوائد؟».
ویتساءل عن حال هؤلاء «المنکرین لما یستحسن من أعمال الفرنج، نجدهم یمتنعون عن مجاراتهم فی ما ینفع من التنظیمات ونتائجها، ولا یمتنعون منها فی ما یضرهم، وذلک إما نراهم یتنافسون فی الملبس وأثاث المساکن ونحوها، من الضروریات، وکذا الأسلحة وسائر اللوازم الحربیة، والحال أن جمیع ذلک من أعمال الافرنج. وبعد أن بیّن عدم انتفاع صنّاع البلاد من تصنیع الخامات التی تنتجها أرضهم بل یبیعونها للإفرنجی بثمن یسیر، ثم یشترونها بعد تصنیعها بأضعاف مضاعفة «فلیس لنا الآن من نتائج أرضنا إلا قیمة مواردها المجردة» وهکذا فإن قیمة الاستیراد تزید قیمة الدخل «فحینئذ یتوقع الخراب لا محالة» ثم یشیر إلى الخلل السیاسی «فإن احتیاج المملکة لغیرها مانع لاستقلالها موهن لقوتها».
وینقل عن أحد الأوربیین فی السیاسیة الحربیة قوله «إن الممالک التی لا تنسج على منوال مجاوریها فیما یستحدثونه من الآلات الحربیة والتراتیب العسکریة یوشک أن تکون غنیمة لهم، ولو بعد حین»([16]).
وینقل عن بعض أعیان أوروبة ما معناه: «أن التمدن الأورباوی تدفق سیله فی الأرض،فلا یعارضه شیء إلا استأصلته قوة تیاره المتتابع، فیخشى على الممالک المجاورة لأوروبة من ذلک التیار، إلا إذا حذوا حذوه وجروا مجراه فی التنظیمات الدنیویة،فیمکن نجاته من الغرق».
لقد قدم سِفرًا قلّد فیه ابن خلدون مع معالجته للواقع الذی عاصره، ورکز على وجوب المشاورة والإفادة من أدمغة المفکرین الذین یعون تمامًا الأحوال ویعرفون السنن،فالاستبداد وخسارة خبرة الأمم الأخرى وإقصاء دور العلماء المحلیین إضافة إلى الظلم کل ذلک یؤدی إلى الخراب ویشهد بما آلت إلیه «ممالک الباب، کبیر الدیانة النصرانیة، لامتناعه من الاقتداء بالتراتیب السیاسیة المعتبرة فی بقیة الممالک الأوروباویة،دلیل واضح على ما ذکرناه» ویعود لیتحدث عن تلک الدول «وإنما بلغوا تلک الغایات،والتقدم فی الأرض بعلم الزراعة والتجارة. وملاک ذلک کله الأمن والعدل،اللذان صارا طبیعة فی بلدانهم» ثم ذهب إلى حدیث الرسول(ص) عن العدل الذی به صلاح السلطان، وقوة الخاص والعام، وبه أمن الرعیة وغیرهم». واقتبس من کتاب نصائح الملوک «إن ولی الأمر یحتاج إلى ألف خصلة، وکلها مجموعة من خصلتین إذاعمل بهما کان عادلاً وهما: عمران البلاد وأمن العباد»([17]).
ویقتبس صورة من تاریخ إنکلترا التی عرفت أحسن أیامها فی عهد حکم الملک جورج الثالث الذی کان مجنونًا، «وما ذاک إلا بمشارکة أهل الحل والعقد ومسؤولیة الوزراء لهم»([18]).
إن خیر الدین التونسی الذی استشف المستقبل من خلال رؤیة بعیدة استطاع أن یتخیل واقع العالم الیوم «ثم إذا اعتبرنا ما حدث فی هذه الأزمان، من الوسائط التی قربت تواصل الأبدان والأذهان، لم نتوقف نتصور الدنیا بصورة بلدة متحدة تسکنها أمم متعددة، حاجة بعضهم لبعض متأکدة»([19]).
وکأنه رأى العولمة بصورتها الحالیة الیوم إلا أنه بدلاً من تشخیص المرض، والانکباب على دراسة أسباب الأزمة التی أدت إلى ضعف العالم الإسلامی من خلال دراسة الجذور الفکریة التی أحدثت العقم والجدب فی فکر المسلمین،انصرفت الدولة العثمانیة إلى استیراد الحل بتقلید فی الظاهر دون المضمون لما کان معمولاً به فی أوروبا.
إن مشکلة المسلمین بدأت باکرًا. لأکثر من سبب وسبب، أهمها کمون عوامل ضعف اعتورتها ولم تکن ظاهرة للعیان فی بدایتها، خاصة وأن جیش الفتح کان أغلبه من الأعراب الذین عجزوا عن تبلیغ الإسلام کما هو فی نقاوته،ومع الأیام کبرت الظواهر الشاذة لتتولد «دولاً ذات نعرات قبلیة وعرقیة وخلیطًا من من توجهات اسلامیة» ثم تتضاعف الأزمة «والمرض فی جسد الأمة» فتمثلت «فی ذیوع المذهبیات الشعوبیة والعنصریة القومیة».
واستمر الوضع بین مدّ وجزر إلى أن تبینت الدولة العثمانیة أن العالم الأوروبی أصبح أکثر تفوقًا وأن نظامها أمام تحدیات جدیة لذلک لجأت «بقوة وعزم منذ القرن الثامن عشر المیلادی وعلى ید السلطان سلیم الثالث بتقلید الأجنبی الأوروبی واعتبرت ذلک التقلید سبیلها الوحید إلى القوة وإعادة البناء».
و«بدأت دورة الفراغ والضیاع فی رحى التقلید الأجنبی سعیًا إلى نقل المعرفة والخبرة والعلوم الفنیة والتقنیة والأجنبیة، وقامت الدولة ببناء أول مدرسة للهندسة والعلوم وأول مدرسة عسکریة حدیثة لتدریب وتکوین قوات على النمط الأوربی «وبلغ من زخم التصمیم على ذلک أن أحرقت ثکنات للانکشاریة بمن فیها بسبب معارضتهم الشدیدة للنمط الأوربی.
وأنه بالرغم من کل البعثات الدراسیة إلى أوروبة «عاد الترکی المثقف ثقافة غربیة لیضیف منطلقًا جدیدًا فی التقلید وهو ضرورة الإصلاحات السیاسیة والاجتماعیة على النمط الأوروبی «التی توجت فی النصف الأخیر من القرن التاسع عشر المیلادی لما عرف بدستور مدحت باشا «ومن المعلوم کحقیقة من حقائق التاریخ أن تلک الخطة فی التقلید وذلک الأسلوب فی المحاکاة لم یفلحا فی تحقیق القوة ومواجهة التحدی ونقل المعرفة واستنباتها فی کیان الأمة إذ استمر تقهقر القوة العثمانیة أمام أوروبا واستمر نمو القوة الأوروبیة».
والحقیقة الثابتة أن الدولة الترکیة ومثلها بقیة الدول الإسلامیة. «لم تتحسن أحوالها بل استمرت فی التدهور رغم أنها مرت بکل مراحل التقلید الأجنبی» فی مختلف المیادین العلمیة والعسکریة والإدارة «وتبنى المفاهیم اللبرالیة، وترجمة الثقافة الغربیة، وإدخال التغییرات السیاسیة والدستوریة، وتبنى مفهوةم الوطنیة والقومیة،والأخذ بمفهوم العلمانیة واللادینیة، وتبنی القوانین والأنظمة الأوروبیة، وتطویر مؤسسة الدولة للسیطرة على المؤسسات الاجتماعیة والاقتصادیة والمالیة» إلا أن «کل ما أنتجه هذا التقلید والمحاکاة هو مزید من ضعف ترکیة وانحطاطها، وانتهت إلى الوقوع فی القبضة الکاملة للنفوذ الغربی».
إن ما تلخصه رحلة الدولة العثمانیة بحثًا عن الخلاص حاکته مناطق عربیة أخرى بدءًا من التجربة العربیة المصریة على ید محمد علی باشا فی مصر منذ مطلع القرن الثامن عشر المیلادی، اللهم إلا ما وفرته الدول الأوروبیة حینها من قوة عسکریة آلت إلى الأفول بعد أن فعلت فعلتها فی إنهاک قوة الدولة العثمانیة المریضة، تجلى ذلک بحملتین عسکریتین الأولى بقیادة طومسن باشا إلى الجزیرة العربیة والثانیة بقیادة إبراهیم باشا (وکلاهما متبنّى لمحمد علی الذی لم ینجب أولادًا) حیث وصلت مجتازة بلاد الشام وصولاً إلى أضنه،والجدیر بالذکر أن هذه الحملة أسست للمشاکل الطائفیة فی لبنان التی ما زالت مفاعلها تتداعی حتى یومنا هذا.
«وحتى الیوم وکل ما تلاها من تجارب فی البلاد العربیة والإسلامیة فی آسیا وإفریقیا، لما وجدنا فیها جدیدًا یُضاف إلى التجربة الترکیة وآثارها الوخیمة.وما یزال العالم الإسلامی على مرّ هذه القرون ــ مع تجربة الأجنبی الدخیل ــ مریضًا ممزقًا متدهورًا فی صورته العامة، وما تزال الهوة الحضاریة بینه وبین بلاد الغرب المتقدمة تزداد عمقًا واتساعًا لغیر مصلحته»([20]).
هذه تجارب سابقة مع مسمیات دخلت علیها فی عصرنا الحدیث: الدیمقراطیة وآلتها، الانتخابات النیابیة کعامل إصلاح، بعدما انکفأت تجربة الاشتراکیة والتقدمیة مع ما ترکته من مآس وویلات، وهذا ما سیتم بحثه لاحقًا.
رحلة شتات الأمة
إن الجسم الذی یضعف من داخله تتضاءل عنده قوة المناعة، ومهما کان البناء ضخمًا وأعمدته ضعیفة فمآله السقوط وهذا یحدث بعشوائیة ودون انتظام، ولعل الحرب العالمیة الأولى کانت نهایة تآکل جسم الأمة فی ما سبق من العقود ومحاولات التخبط بحثًا عن تریاق یحد من انتشار المرض من الأطراف حتى القلب.
وفی لحظة من الضعف أدرک السلطان عبدالعزیز مقولة المفکر السیاسی الإیطالی نیقولا میکافیلی إلى الاستعانة بالدول الأخرى للدفاع عن الدولة هو السبیل لتدخل هذه الدولة بشؤونها، وبعدما خرج من حرب القرن أدرک أن تحالف دول مع دولته «لم تکن نتیجته إلا إضعافها بالتدخل فی شؤونها الداخلیة ومساعدة الطوائف المسیحیة الخاضعة لها على الانشقاق عنها وبث روح الفتن والفساد فی ممالکها تحت غطاء الحریة ونشر العلوم «عندها فکر بحل عن طریق التحالف مع روسیامباشرة وضم الأقالیم المسیحیة إلیها مع إبقاء الولایات التی یغلب فیها العنصر الإسلامی للدولة العلیة العثمانیة. عندها یمکن أن یحد من خسائره فلم «یرق ذلک لهم فی أعین الدول الأوروبیة التی لها مصالح فی الشرق وخصوصًا إنکلترا فأخذ عملاؤهم وسفراؤهم الظاهرون والسریون یلقون الوساوس فی عقول السذج من أهل الآستانة وینسبون للسلطان التبذیر والإسراف وعدم الأهلیة لإدارة مهام الملک...وما زالوا یوسوسون ویلقون بذور الفساد حتى أقنعوا الوزراء بوجوب عزله وأن إقالته من الأعمال الواجبة لانتظام الدولة وسیرها على المحور المستقیم «ولاقت هذه المسائل أذنًا صاغیة لدى بعض المشایخ وإذا بفتوى یصدرها شیخ الإسلام حسن خیر الله أفندی هذا نصها: «إذا کان زید الذی هو أمیر المؤمنین مختل الشعور ولیس له إلمام فی الأمور السیاسیة وما برح ینفق الأموال المیریة فی مصارفه النفسانیة فی درجة لا طاقة للملک والملة على تحملها وقد أخل بالأمور الدینیة والدنیویة وشوّشها وضرب الملک والملة وکان بقاؤه مضرًا بها فهل یصح خلعه؟
وفی یوم الاثنین 6 جمادى الأول 1293هـ الموافق 29 مایو 1876 خُلع السلطان عبدالعزیز وتمت البیعة للسلطان مراد الخامس.
لعل رسالة السلطان المخلوع عبدالعزیز إلى ابن شقیقه السلطان الجدید، تکشف نزاهة الأمر والحالة العجیبة الغریبة التی وصلت إلیها الأمور: «بعد اتکالی على الله تعالى وجهت اتکالی علیک فأهنئک بجلوسک على تخت السلطنة وأبین لک ما بی من الأسف على أنی لم أقدر على أن أخدم الأمة حسب مرادها فأومل أنک أنت تبلغ هذا الأرب وأنک لا تنسى أنی تشبثت بالوسائل الفعالة لصیانة المملکة وحفظ شرفها وأوصیک بأن تتذکر أن من صیرنی إلى هذه الحالة هم العسکر الذین سلحتهم أنا بیدی وحیث کان من دأبی دائماً الرفق بالمظلومین وشملهم بالمعروف الذی تقتضیه الإنسانیة أرغب إلیک أن تنقذنی من العناء الذی صرت إلیه وتعین لی حملاً أکثر ملاءمة لی وأهنئک بأن الملک انتقل إلى ذریة أخی عبدالمجید خان.
الإمضاء: عبدالعزیز.
هکذا مات عبدالعزیز متهماً بالجنون والتبذیر وعندما اکتشف خلفه اللعبة وحاول إصلاح الدولة تم اتهامه أیضاً من الجهة نفسها بأنه مضطرب الأعصاب وتم خلعه بفتوى جدیدة وتسلیم الدولة للسلطان عبدالحمید خان الثانی بعد مرور شهر فقط على تسلم السلطان مراد وکانت الفتوى «إذ جن إمام المسلمین جنوناً مطبقاً ففات المقصود من الإمامة فهل یصح خلع الإمامة من عهدته؟
الجواب
یصح والله أعلم کتبه الفقیر حسین خیر الله عُفی عنه»([22]).
وبالفتوى جاء السلطان عبدالحمید ثم بالفتوى نفسها تمّ خلعه، لکن الفقیر هذه المرة فقیر آخر «اجتمع المجلس العمومی اجتماعًا سریًا وخلع عبدالحمید بموجب فتوى شیخ الإسلام هذا نصها: «إن اعتاد زید الذی هو إمام المسلمین أن یرفع من الکتب الشرعیة بعض المسائل المهمة الشرعیة وأن یمنع بعض هذه الکتب ویمزق بعضها ویحرق بعضها وأن یبذر ویسرف فی بیت المال ویتصرف فیه بغیر مسوغ شرعی وأن یقتل الرعیة ویحبسهم وینفیهم ویغرّبهم بغیر سبب شرعی وسائر أنواع المظالم ثم أدعى أنه تاب وعاهد الله وحلف أنه یصلح حاله ثم حنث وأحدث فتنة عظیمة جعلت أمور المسلمین کلها مختلفة وأصر على المقاتلة وتمکن منعة المسلمین من إزالة تغلب زید المذکور ووردت أخبار متوالیة من جوانب بلاد المسلمین أنهم یعتبرونه مخلوعًا وأصبح بقاؤه محقق الضرر وزواله محتمل الصلاح.
فهل یجب أحد الأمرین خلعه أو تکلیفه بالتنازل عن الإمامة والسلطنة على حسب ما یختاره أهل الحل والعقد وأولو الأمر من هذین الوجهین؟
الجواب: یجب. کتبه الفقیر السید محمد ضیاء الدین عفى عنه([23]).
توضیح:
إن ما تم اقتباسه لم یکن المقصد منه إعادة النظر فی أسباب سقوط الدولة العثمانیة وأحوالها، وإن کان ذلک مدخلاً لفهم الحال الذی آلت إلیه الأمة الإسلامیة بعد الحرب العالمیة الأولى ونشوء الکیانات الجدیدة، إنما الهدف مما ذکر استعادة صورة المفکر المسلم أو المفتی المسلم «شیخ الإسلام» أوفی أحسن الأحوال منهج التفکیر والتحلیل والتخطیط لدى القیمین على شؤون البلاد والعباد. ثم إن الأخطر من ذلک هو استمرار حالة السذاجة وطببة القلب وعدم قراءة الماضی للاتعاظ والحاضر لدراسة النتائج والمستقبل لبناء غد أجمل وأفضل.
فی خدمة المحتل:
لقد کانت التجربة الأولى فی مصر الکنانة حیث تخیل المعارضون للدولة العثمانیة أن منبرًا للأحرار قد انتصب، وأخذوا یتجمعون من کل أقطار الدولة العلیة فی مصر حیث أعطوا حریة الکتابة والتألیف و لیس لبعث نهضة علمیة، ولا لإصلاح النظم الاجتماعیة، ولا للتفتیش فی مرکز أبحاث لإیجاد عقار ینقذ طفلاً یتهدده الموت بسبب الأمراض أو الأوبئة، بل لتصویب وتسدید السهام ضد السلطان العثمانی، فکانت المجلات والجرائد والروایات التی تتحدث عن الاستبداد والظلم والفساد فی الآستانة.وکان ممن هب کی یحظى بفرصة التعبیر عن آرائهم السیاسیة السید محد رشید رضا الذی فشل بعض أصدقائه فی طرابلس الشام بإقناعه کی یبقى یکتب فی کل ما یرید دون التهجم على السلطنة،ومن على شاطئ البحر فی القلمون تمکن من الهرب على متن أحد القوارب.وفی مصر لم ینجح معه الإصلاحی محمد عبده وثنیه عن مهاجمة الدولة العثمانیة وصرفه إلى التربیة والتعلیم مقدمًا له عصارة خبراته، وهو الذی کان قد انتفض مع عرابی باشا ضدالإنکلیز إلا أن السید محمد رشید رضا أصر على محاربة السلطان عبدالحمید الثانی وحکومته ونظامه عبر مجلة المنار التی توقفت بعد مماته عام 1935م.
إن مسیرة محمد رشید رضا تلخص رحلة کل من سبقه أو خلفه إلى یومنا هذا. وما إن وضعت الحرب العالمیة الأولى أوزارها وتقاسم المنتصرون ترکة الدولة العثمانیة ووضعوا فلسطین والعراق تحت الانتداب البریطانی عندها أدرک محمد رشید رضا أن منتدى الأحرار قد أغلق وکمت الأفواه وأکثر من ذلک عندما ألقى جنود فرنسیون القبض علیه بسبب حیازته لبعض صفحات من تفسیر المنار لآیات القرآن العظیم.
لقد بقی محمد رشید رضا حیًا وهو یرى فلسطین تسلم للحرکة الصهیونیة على طریق بناء دولتها، عندها أدرک أنه وقع فی الفخ تمامًا کما أدرک ذلک الأمیر فیصل بن الشریف حسین الذی قاد الثورة العربیة الکبرى التی کان مهندسها الفعلی الضابط الإنکلیزی لورنس، وإن کان الأمیر فیصل عرف ذلک یقینًا عندما حضر مؤتمر الصلح فی سان ریمو 1919 میلادی، إلا أن موقعة میسلون على مشارف دمشق حیث استشهد یوسف العظمة کان لها الیقین الذی توقعه من قبل.
إن مذکرات لورنس سجلت سفرًا فی تصویر حالة العرب وسذاجتهم یقول «فمنذ أن وطأت قدمای أرض العرب وأنا حر فی الاختیار، لا أتلقى الأوامر من أحد» وتحدث عن متاعبه لمدة سنة ونصف أمضاها مع الحرکة العربیة لمعدل 1500 کلم شهریًا یقطعها على متن الجمل عدا عن السفر بالطائرات أو السفن أو السیارات المصفحة «وکنت خلال هذه المدة قد جرحت مرارًا وقاسیت الکثیر من الألم والجوع والبرد والقذارة.
وهذه المتاعب ما کانت لتعنی شیئًا نظرًا لعدم اکتراثی بما هو جسدی وإنما هناک الخداع المرهق الذی اضطررت أن أحمل نفسی وزره وهو ادعاء قیادة ثورة وطنیة لعنصر آخر بعد أن لبست لها لباسًا لا عهد لی بمثله من قبل، وتسلحت بلغة أجنبیة یصعب علی التبشیر بها، مع الیقین التام بأن (الوعود) التی أطلقها للعرب لن تکون لها أیة قیمة عملیة فیما بعد إلا بمقدار ما سیظهر العرب أنفسهم من قوة»([24]).
لقد کان هذا الضابط. یجلب أکیاس الذهب (ألف لیرة ذهبیة)([25]) فی کل کیس وینقلها على الجمال کی یوزعها على قبائل العرب مواکبًا ذلک ببذر مبادئ القومیة. یقول: «ولکن لم یکن لی الحق أن أجرّ العرب إلى معرکة حیاة أو موت، فی غفلة منهم، وأدعهم یجرون وراء شبح حق»([26]).
وغریب أن یکون هذا الشاب قد زود بمعلومات عن طباع الشرقیین فی حین أن کثیرین منا لم یتعرفوا علیها حتى الیوم.
یقول: «ومن عادة الشرقیین أن یثقوا بالأشخاص أکثر من المعاهدات. وعلى هذا الأساس، طلب العرب منی بصفتی وکیل حر أن أضمن وعود الحکومة البریطانیة»([27]).
إذا کان مغتصبو فلسطین لم یغیروا خططهم العسکریة وقد سئل وزیر الدفاع الصهیونی عن السبب الذی جعلهم یطبقون خطتهم باحتلال سیناء والوصول إلى القناة 1956م فی هجومهم فی صباح الخامس من حزیران 1967م فأجاب باطمنئان: «إن العرب لا یقرأون وإذا قرأوا لا یفهمون».
إذا کانت هذه قناعاتهم فلماذا لا تکون الترتیبات التی طبقت منذ القرن التاسع عشر حتى الیوم هی نفسها، وأن لورنس ما زال یظهر بوجوه جدیدة، والشرقیون یصدقون وعود الأشخاص أکثر من المعاهدات المکتوبة.
إن قراءة متأنیة لما أصبح بعضه معروفًا بالتأکید تسهل على الباحث فهم کل الأزمات فی المنطقة العربیة خاصة والعالم الإسلامی عامة وفی مقدمها تأزم الحوار ونشوء العنف بین أصحاب المذاهب الإسلامیة التی سُبقت بصراع أصحاب الأدیان من قبل.إن لورنس نفسه کان یشکو من عدم تمکنه،کما یجب،من إثارة المسیحیین ضد جیرانهم المسلمین لأنهم کانوا لا یشکون منهم ولا یقبلون الغدر بهم.
فعلى سبیل التلمیح نقتبس صورة أوردها الأمیر شکیب أرسلان، لقد صدرها بقوله بأن کثیرین من المسلمین رفضوا خیانة بنی قومهم ولم یستجیبوا للمحتل «ولم تنقض علیهم السماء من فوقهم ولا خسفت بهم الأرض من تحتهم» إلا أنه مع الأسف الشدید هناک من لبى نداء الخیانة «کانوا یعرضون علیهم خدمتهم فی مقاومة إخوانهم ویقومون بها بکل نشاط ومناصحة، ویبدون کل أمانة لهم فی أثناء تلک الخیانة.
ولولا هذا التبرع بالخیانة،والتسرع إلى مظاهرة الأجنبی على ابن الملة،لما استأسد الأجنبی وصار یتحکم فی المسلمین هذا التحکم الفاحش...بل قام یحملهم على الموت لأجل الموت».
إن الأمیر شکیب أرسلان سطر أروع حوار فی مخاطبة الذین یلبون رغبة الأجنبی فی الاقتتال إلى جانبه أو بإحداث الاقتتال الداخلی فی بنی قومهم، فالموت موتان «أحدهما الموت لأجل الحیاة: وهو الموت الذی شرعه الله (عزوجل) للمؤمنین بالدفاع عن أرضهم وعرضهم إذا ما غزاهم عدو غاشم، ویقول: «إنه الموت الذی یموته الإفرنسی لأجل حیاة فرنسا والألمانی لأجل حیاة ألمانیا، والإنکلیزی لأجل بریطانیا العظمى ــ وهلم جرى ــ ویجده على نفسه واجبًا لا یتأخر عن أدائه طرفة عین».
«وأما الموت الثانی فهو الموت لأجل استمرار الموت،وهو الموت الذی یموته المسلمون فی خدمة الدول التی استولت على بلادهم» ولکن هناک موت لأجل الموت مباشرة بدون واسطة وهو عندما یموت المغربی فی قتال أخیه المغربی الذی قام یحاول أن یزحزح شیئًا فی النیر الإفرنسی الذی کاد یدق عنقه»([28]).
مرة أخرى لیس الهدف مما تقدم اقتباسه عن حقبة استعماریة سابقة إلا للإضاءة على آخر نسخة من أوجه العنف والصراع والتأزم بین أصحاب المذاهب الإسلامیة.
ساحات مواجهة:
أولاً: التیار القومی:
صحیح أن کثیرین ابتعثوا للدراسة فی الغرب إلا أن برامج الإصلاح التی طرحوها عند عودتهم کانت شکلیة ولا علاقة لها بالمضمون.
لم ینتبهوا إلى أن القومیات أشعلت نیران الحروب فی أوروبة، بینما کانت النهضة علمیة تتعلق باکتشاف معادلات طورت المادة وحسنت الوضع المعیشی، وأبدعوا بالنظم الاجتماعیة والسیاسیة وانتبهوا إلى أنه بإمکانهم التوصل إلى وجوب حل مشاکلهم الاقتصادیة على حساب الدول التی تم احتلالها وهی بالضبط العالم الثالث وجنوب أمریکا اللاتینیة، وخصوصًا بعد تجارب الحروب المریرة التی ترکت فی النصف الأول من القرن العشرین 150 ملیون قتیل،هذا عدا عن الجرحى والمعوقین والدمار الذی أزال عواصم بکاملها إضافة إلى ما لحق بالاقتصاد وهذا یعنی أن العالم الإسلامی برمته ضمن هذه الدول.
إن الباحث الذی عاش مراحل الحرب اللبنانیة وشارک فی کل فصولها ما قبل الحرب وأثناء الحرب وفی أعقابها (العسکریة والسیاسیة والاجتماعیة).ثم توّج ذلک ببحث علمی أمضى فیه خمس سنوات خرج بالنتائج التالیة: «إن الدول الصناعیة شرقیة کانت أم عربیة أو أمریکیة لا ترید أن تضطر لحرب عالمیة ثالثة ورابعة...بالبحث عن سوق استهلاکیة لبیع المنتجات الصناعیة وتأمین المواد الأولیة التی کانت من أبرز الأسباب التی أدت إلى حدوث حربین عالمیتین.
إذا لابد من إیجاد منطقة استهلاک مشترکة لکل هذه الدول المصنعة، کی تجعل منها سوقا دائمة لبیع صناعاتها ومنتوجاتها وسلب خیراتها، ولکل دولة منها حصتها ومناطق نفوذها ونوعیة البضاعة التی تستوردها وهذا یستوجب:
العمل على إبقاء البلدان التی هی ضمن دائرة السوق المشار إلیها آنفا فی حالة استهلاکیة دائمة.
وجوب إبقائها فی دوامة من المشاکل والاضطرابات الدائمة لأن الثبات والاستقرار من مسببات النماء والخصب.
والمنطقة العربیة بالذات، وإیران من بینها، یلزمها مشاکل متتالیة لأنها قادرة على التحول إلى دول متقدمة ومصنعة بفضل ما لدیها من مقومات الحضارة والتاریخ وتوفر المال والموارد الخام، إضافة إلى الفتوة والنشاط عند سکانها.
عندما تصل هذه الدول (السوق الاستهلاکیة) أو بعضها إلى حالة الإشباع من المنتوجبات الصناعیة أو الغنى المالی، یجب تدمیرها کی یضطر أهلها إلى شراء حاجیاتهم من جدید ومن ثم وضع کل اقتصادهم بتصرف الدول الصناعیة التی ستعید ترمیم المنشآت المهدمة بواسطة شرکاتها عبر عقود مالیة یمکن لأی ثاقب أن یتخیلها فی أیة دولة حلت بها تلک التدابیر([29]).
إن أفضل طریقة لضمان تنفیذ هذه الخطة هی زرع جسم غریب فی المناطق الحساسة کما هو فی فلسطین،قلب المنطقة العربیة، إضافة إلى بعث قومیات تم العمل على إثارة الفتن فیما بینها، ولما استهلکت إلى حد ما کان العمل على إثارة النعرات المذهبیة بین المسلمین کما عُمل على إثارة حروب طائفیة فی لبنان فی مرحلة ما، ثم تجهد عوامل الفتنة لإکمال مشروع الفتن فی مصر بعد أن نجحت الخطة فی أعالی وادی النیل. (السودان،أثیوبیة،ارتیریا تشاد وغیرها)، بهدف إبقاء السکان فی حالة تخلف دائم وهذا یستوجب صرفهم إلى التلهی بدراسات لا طائل منها إذ لیس بالإمکان منعهم من التعلم بشکل صریح([30]).
بنظرة سریعة على کل ما تمرّ به دول المنطقة من صراعات وفتن نفهم أن کل ذلک له هدف واحد هو إبقاء هذه الدول المستهدفة وشعوبها فی حالة استهلاکیة، وبشدة،لأن الحروب تستنفد کل الطاقات وتلزم الفرقاء الذین یخوضون غمارها إلى الإنفاق بسخاء حتى الإفلاس. وکلما ملّوا من الاقتتال والانتحار تحت رایة، استبدلت باللوحة المعروضة لوحة أخرى.
إن البحث لا یستوعب التوثیق لکل مراحل نشوء الفکر القومی الذی ما زالت مفاعیل دوره فی إشعال الفتن مستمرة حتى الیوم، مرورًا بمرحلة استیراد النظم المتفرعة من المارکسیة تحت أسماء شتى، اشتراکیة تقدمیة، ثم الانتقال إلى الدیمقراطیة،مع کل الآثار السلبیة التی تشاهد فإن المنطقة ترفع فیها لوحة فتنة جدیدة، یبدو أنها مشبعة بوسائل شدیدة القابلیة للاحتراق بدأت ملامحها منذ عقود فی سوریا علوی ــ سنی .
ثم أخذت شکلها الواضح فی العراق مع بقع ملتهبة فی الباکستان والهند (شیعی ــ سنی) وبدأت تتشکل موجة فتنة فی لبنان شیعی ــ سنی أدى إلى طرح الهلال الشیعی الذی أخذ طریقه لیتصدر أحداث المنطقة الدامیة. هذا عداعلمیات الاستفزاز المستمرة لإثارة الفتن الطائفیة هنا وهناک.
هذه هی اللوحة الجدیدة التی آل إلیها وضع المنطقة.
ویمکن للباحث أن یتوقع رایة اللوحة الجدیدة بعد استهلاک لوحة الفتنة الشیعیة السنیة بحیث ستکون صراعًا بین الفرق الاعتقادیة عند أهل السنة أنفسهم، طالما تمکن القابضون على صنع الأحداث وتحریکها من إشعال فتنة (فتح ــ حماس) فی فلسطین یعزز فرضیة الحکم بأن حمایة الکیان الصهیونی تتم بما یحدث خارج الأرض المحتلة.
نظرة فی الفتنة المذهبیة:
هل أن کل ما یحدث من فتن أو بعد لأحداث أخرى هو فعلا من موجبات تنوع المذاهب؟ إذا کان ذلک کذلک فکیف یمکن تفسیر قرون زادت على الثلاثة عشر قرنا ونیف من العیش معا لیس وسط التنوع المذهبی فی دوائره الصغرى والکبرى کما هو أیضًا مع أصحاب الدیانات الأخرى لو أن التنوع یوجب على کل فریق أن یستأصل من یخالفه کی یستقر الأمر إلى رأی واحد وفریق واحد ولون واحد؟
فإذا کان الباحث منصفًا وسلیم العقل فإن قراءته للتاریخ تریه أن الصراعات إنما کانت للسیطرة ولیس لما هو من مستلزمات اتباع هذا المذهب أو ذاک فالثورات والحروب توزعت على الجمیع بغض النظر عن مذاهبهم والمقصد منها واحد لا ثانی له: السلطة، السلطة، السلطة. وهذا ما یسمى مجازًا بالاختلافات السیاسیة، ولفظة السیاسة مظلومة لأنها تعنی تدبیر الأمور...
حری بأمتنا أن تفرد من بین حکمائها مجلسًا یقوم بدراسة مرکزة، ولو لأول مرة یلزم الناس استقاء معلوماتهم ومعارفهم عن طریقها وبالتأکید ولیس استباقًا للنتائج. فإن أیًا من المذاهب الإسلامیة لا یستوجب هذا الصراع وهذه الحروب. فالله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفین وزین لکل مجموعة عملها ولکنه سبحانه وتعالى أوجب التوحد فی الدائرة الکبرى، والأمة لیست بحاجة ــ کما أنه من غیر الممکن ــ أن تتوحد على مذهب واحد،هکذا عاشئت منذ أربعة عشر قرناً والمسلمون یتباهون برحمة الاختلاف.
إن ما یجب العمل له هو إیجاد مشروع مشترک یرکز على حل مشاکل الناس الاجتماعیة والرقی بتنظیماتهم السیاسیة، ونقلهم من الفقر إلى الغنى، ومن التظالم إلى العدالة، ومن الفردیة إلى جماعیة یتحکم بمصیرها الحمکاء، عباقرة الأمة مع ما یمکن أن یفیدوا منه مما هو حاصل عند الأمم الأخرى وغیر مخالف لأساس شریعة الإسلام التی تحل الطیب وتحرم الخبائث.
إنه من المفید أن نستعید قول سلطان العلماء العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: «إذا اجتمعت مصالح ومفاسد: فإن أمکن دفع المفاسد وتحصیل المصالح فعلنا ذلک، وإن تعذر الجمع: فإن رجحت المصالح حصلناها، ولا نبالی بارتکاب المفاسد، وإن رجحت المفاسد دفعناها، ولا نبالی بفوات المصالح... وإذا توهمنا المصلحة المجردة عن المفسدة الخالصة أو الراجحة احتطنا لتحصیلها. وإن توهمنا المفسدة المجردة عن المصلحة الخالصة أو الراجحةاحتطنا لدفعها»([31]).
إنه من المؤکد أن لا مصلحة تجلب من اقتتال أصحاب المذاهب، وأنه لا رابط بین الأداء السیاسی وبعث الفتن المذهبیة، إن الإنسان الذی جبل على دین ما أو مذهب ما أضحى ذلک من جملة مکونات مشاعره الفطریة، لا بل بات من جملة غرائزة، وهذا یعنی أن الاصطدام بها غیر ممکن على الإطلاق وتجارب ذلک عند کل الأمم الأخرى ومنها أمة الإسلام تؤکد صحة هذا المفهوم وکذا علم النفس والاجتماع یؤکدان ذلک.
إن الجهد یجب أن ینصب على تطویر مصالح الناس وتأمینها ولیس على تغییر دین هذا أو مذهب ذاک، فهذه مسائل تترک لاقتناع کل فرد، ومن کان یحب أن ینشر الذی یؤمن به فلیخرجه إخراجًا جمیلا، ویجعله معشوقًا وقصودًا من الآخرین.
إن العنف لا ینشر دینًا أو مذهبًا، إنها مسألة أحاسیس ومشاعر مقرها مرکز العاطفة والکراهیة عند الإنسان، وما کان فی هذه الدائرة فهو فجّ لا یتم التعامل معه إلا وفق السنن الناظمة له بالدعوة والموعظة الحسنة.
إنه لیس صراع مذاهب بل هو لوحة جدیدة من لوحات الاقتتال بین المتخلفین والمهوزمین حیث یقتل فیه الشقیق شقیقة ظنًا منه أنه یتحرر من متاعبه على حد نظریة أحد علماء الاجتماع (ترانزفانون).
إنها حرب الذات على الذات، إنها استیراد حکم نزل بحق مجرمین: > فَاقْتُلُواْ أَنفُسَکُمْ ذَلِکُمْ خَیْرٌ لَّکُمْ عِندَ بَارِئِکُمْ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُکُم مِّن بَعْدِ ذَلِکَ فَهِیَ کَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
إن من یحس ویشهد حدة الکراهیة التی قفزت إلى المسرح بسرعة مذهلة بین أتباع مذاهب إسلامیة لا یسعه إلا أن یتذکر تلک الآیة الکریمة،إن قصص القرآن فیه تلمیح لمن یقرأه من المسلمین أن من یفعل هذا تکون هذه هی صفاته.
والغریب کیف یمزق شمل أمة وتخطف البسمات من وجوه الأطفال ویکفهر الجو وتظهر فی سماء الوطن سحب دکناء ویحمر الشفق بلون الدماء إنه لأمر عجیب وغریب؟
إن کل الدول الکبرى فیها تعددیات بالأصول والفروع، دیانات ومذاهب وقومیات، والسیاسة عندهم تنظیم لأحوالهم بینما هی فی بلادنا مع قلة تنوعها شر مستطیر تغذیه جهالة شعب ومهارة طامعین بخیرات أرضه ما ظهر منها وما بطن.
الهوامش:
* - عمید کلیة الدراسات العلیا فی جامعة الجنان بلبنان، مدیر مرکز الأبحاث والتنمیة .
[1] ـ جورج سباین، تطور الفکر السیاسی، الکتاب الأول، ترجمة حسن جلال العروسی، دار المعارف،مصر،بدون تاریخ، مقدمة الطبعة الأول ، د. عثمان خلیل عثمان ،ص 17.
[9] ـ محمد أبو زهرة، تاریخ المذاهب الإسلامیة،فی السیاسة والعقائد وتاریخ المذاهب الفقهیة، ج 1، دار الفکر العربی 1989 بدون رقم طبعة صفحة: 7.
[10] ـ محمد أبو زهرة، الاقتباس بتصرف، المرجع نفسه ص: 7 - 10.
[11] ـ الصحوة الإسلامیة بین الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1414هـ - 1993م،ص 44 بتصرف.
[12] ـ على لاغا، مدخل إلى العلوم السیاسیة،دراسة مقارنة بین النظام الإسلامی والأنظمة الغربیة دار بیروت المحروسة،ط 2 سنة 1415هـ / 1994م، ص 51 – 52، جاء فی الإهداء ولدی مصعب:إذا رأیت أمة مهزومة وشعبا متخلفا إعلم أن ذلک سببه عقم فکرها السیاسی، وجهلها بسنن الکون ونوامیسه، واعلم أن من امتلک تلک النوامیس کان الکون طوع یدیه» .
[14] ـ الإقتباس المطول من ابن خلدون المقدمة ، دار احیاء التراث العربی الکتاب الأول ، ص 35 - 36.
[15] ـ هذه المعلومات مستقاة بتصرف من: روجر أون، الشرق الأوسط فی الاقتصاد العالمی 1800 – 1914،ترجمة سامس الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربیة ط 1، بیروت 1990م،ص 18 حتى 47.
[16] ـ خیر الدین التوسی «1819 – 1889» مقدمة کتاب أقوم المسالک فی معرفة أحوال الممالک، تحقیق ودراسة معن زیادة،دار الطلیعة بیروت،ط 1، سنة 1978ص : 109 - 114.
[20] ـ عندما جاء محمد ابراهیم باشا مدعومًا من الدولة الفرنسیة قتل الموارنة عدد کبیر من الدروز 1845م فی جبل لبنان ولما انکفأ ثأر الدروز من الموازنة بأحداث 1860م التی جسرت لدخول النفوذ الأوروبی مباشرة، فرنساتدعم الموازنة وروسیا تدعم الأرثوذکس وبریطانیاتدعم الدروز وعقب مؤتمرات لهذه الدول تم تأسیس سنجق جبل لبنان وتحرکات عجلة الفتن والثورات.
[21] ـ محمد فریک بک المحامی ــ تاریخ الدولة العلیة العثمانیة،دار الجبل، بیروت،ط 1397هـ ،1977م،ص 319 - 322.
[22] ـ محمد فریک بک المحامی ـ تاریخ الدولة العلیة العثمانیة، دار الجیل، بیروت، ط 1397هــ ، ص 319 - 322.
[28] ـ الأمیر شکیب أرسلان، لماذا تأخر المسلمون ولماذ تقدم غیرهم مکتبة الحیاة بیروت،طبعة جدیدة ومنقحة، بدون تاریخ،ص 60- 62.
[29] ـ إنه على سبیل المثال تم توقیع مع الشرکات الأجنبیة تلزمها إعادة ترمیم منشآت الکویت قبل أن یتم تحریرها وفی لبنان لوحظ ما یلی: تقدم دولة ما من الدول الصناعیة قرضًا إلى لبنان شرط أن تنفذ أعماله شرکة وطنیة عائدة للدولة المانحة إنه فی رسالة مفتوحة وجهها صاحب مجلة الشراع إلى رئیس الحکومة الأسبق رفیق الحریری رحمه الله بین فیها مراحل انفاق القرض بحیث تقوم الشرکة الجدیدة بنقل الالتزام إلى آخرین بحیث أن مبلغ 500 ملیون دولار یصل منها إلى الواقع 100 ملیون دولار فقط وعلى الشعب اللبنانی أن یدفع أصل المبلغ مع فوائده.
[30] ـ على لاغا، الاتجاهات السیاسیة فی لبنان 1920 – 1982،مؤسسة الرسالة ــ بیروت ط 1، 1411هــ 1991م، بتصرف ص 580 – 582..
[31] ـ العز عبدالسلام، الفوائد فی اختصار المقاصد أو القواعد الصغرى. تحقیق إیاد خالد الطباع. دار الفکر. بیروت ط 1 1416هـ ــ 1996م ، ص : 47 - 48.