من مظاهر وحدة الدائرة الحضاریة الإسلامیة ظهور إحیائیین یدعون إلى وحدة أعضاء الأمة لتکون جسدًا واحدًا إذا اشتکى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، وهؤلاء الإحیائیون لا یسمحون لأنفسهم أن یعیشوا فی أغلال الطائفیة أو الإقلیمیة بل یتخذون من کل الأمة أهلاً ومن کل الوطن الإسلامی سهلاً. ثلاثة إیرانیین یتناولهم المقال رأوا فی مصر المجال الرحب لإطلاق دعوتهم الإحیائیة هم جمال الدین الحسینی (المعروف بالافغانی) وهو صاحب الدعوة الإحیائیة التی لا تزال آثارها مشهودة فی صحوة العالم الإسلامی، والشیخ عبدالکریم الزنجانی الفقیه الذی تجاوز إطاره الوطنی والإقلیمی والقومی والطائفی لیجعل خطابه إلى المسلمین عامة، وکان لقاؤه مع الإمام الأکبر الشیخ المراغی بدایة أوشکت أن تغیّر کثیرًا من الأوضاع السلبیة. والثالث الشیخ محمد تقی القمی الذی هزّته حادثة قتل طائفی، فلم یتجه إلى محاربة القاتلین، بل إلى محاربة الجهل الطائفی فی عالمنا الإسلامی. واختار مصر أیضًا منطلقًا لدعوته لما وجده من تجارب الأزهر الشریف...
من مظاهر وحدة الدائرة الحضاریة الإسلامیة ظهور إحیائیین یدعون إلى وحدة أعضاء الأمة لتکون جسدًا واحدًا إذا اشتکى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، وهؤلاء الإحیائیون لا یسمحون لأنفسهم أن یعیشوا فی أغلال الطائفیة أو الإقلیمیة بل یتخذون من کل الأمة أهلاً ومن کل الوطن الإسلامی سهلاً. ثلاثة إیرانیین یتناولهم المقال رأوا فی مصر المجال الرحب لإطلاق دعوتهم الإحیائیة هم جمال الدین الحسینی (المعروف بالافغانی) وهو صاحب الدعوة الإحیائیة التی لا تزال آثارها مشهودة فی صحوة العالم الإسلامی، والشیخ عبدالکریم الزنجانی الفقیه الذی تجاوز إطاره الوطنی والإقلیمی والقومی والطائفی لیجعل خطابه إلى المسلمین عامة، وکان لقاؤه مع الإمام الأکبر الشیخ المراغی بدایة أوشکت أن تغیّر کثیرًا من الأوضاع السلبیة. والثالث الشیخ محمد تقی القمی الذی هزّته حادثة قتل طائفی، فلم یتجه إلى محاربة القاتلین، بل إلى محاربة الجهل الطائفی فی عالمنا الإسلامی. واختار مصر أیضًا منطلقًا لدعوته لما وجده من تجارب الأزهر الشریف.
وحدة الدائرة الحضاریة الإسلامیة جعلت رجال الصحوة الإسلامیة فی أی بلد یحملون هموم العالم الإسلامی بأجمعه، ویختارون أی بلد من بلدان المسلمین یرونه مهیئًا لدعوتهم،وفی هذا المقال نذکر ثلاثة من الإیرانیین وجدوا من مصر المناخ الحضاری المناسب لدعوتهم إلى وحدة الأمة واستئناف مسیرتها الحضاریة.
سید جمال الدین الحسینی (1254 – 1314هـ/ 1838 – 1897م)
أشهر روّاد الیقظة، وأبرز قادة الحرکة الإصلاحیة، ومن أهم دعاة اتحاد المسلمین، ونبذ الطائفیة والارتفاع إلى مستوى الهمّ الحضاری فی القرن الماضی ونذکره هنا ــ رغم أنه عاش فی أواخر القرن التاسع عشر ـ لریادته، ولاتصال الحرکة الحضاریة وحرکة التقریب فی القرن العشرین به مباشرةً.
شاءت الظروف أن تتنقل أسرته بین بلدان مختلفة، وبذلک توفرت له الظروف لأن یدرس فی الحوزات العلمیة الإیرانیة والعراقیة، وتنقل بین الهند والآستانة والحجاز وروسیا وباریس ولندن داعیًا إلى مشروعه الإحیائی التجدیدی، وإلى إیقاظ الأمة من سباتها.
غیر أن هجرته إلى مصر قد اقترنت بنجاح باهر، لما کان فی هذا البلد من جوّ مستعد لتقبل أفکار جمال الدین، فاجتمع حوله العلماء والمفکرون والأدباء وتحوّل مشروع السید إلى تیّار قویّ کان له أبلغ الأثر على وضع العالم الإسلامی فی السنوات التالیة.
«لقد کانت السنوات التی عاشها الأفغانی بمصر(1288 ـ 1296 هـ /1871 ـ 1879م) ـ هی أخصب السنوات فی تاریخ إنجازاته الفکریة والسیاسیة.ففیها ربی نخبة من العقول التی جددت فکر الإسلام وحیاة المسلمین ـ وفی مقدمتهم الإمام محمد عبده(1265 ـ 1323 هـ /1849 ـ 1905 م) ـ وشرح من کتب الفلسفة والکلام والمنطق ما أعاد للحیاة الفکریة قسمة العقلانیة الإسلامیّة، التی غابت عنها منذ عصر التراجع الحضاری للمسلمین. ونشأت على یده مدرسة فی الصحافة الأهلیة الحرة ـ غیر الحکومیة ـ وتیار شعبی لمعارضة الاستبداد الداخلی، وللثورة على النفوذ الأجنبی ـ الاقتصادی والسیاسی والعسکری ـ الزاحف على دیار الإسلام. بل لقد عرفت مصر ـ على یدیه وبقیادته ـ طلائع التنظیمات السیاسیة (الحزب الوطنی الحر) فی تلک الفترة المبکرة من نشأة الأحزاب
وبضغوط من الدول الاستعماریة ـ وخاصة إنجلترا، التی کانت تحضّر لاحتلال مصر ـ خضع الخدیو توفیق(1268 ـ 1309 هـ/ 1852 ـ 1892 م) فنفى جمال الدین من مصر(1296 هـ /1879 م) ـ زاعمًا أن الأفغانی یقود جماعة من ذوی الطیش، مجتمعة على فساد الدین والدنیا !! فذهب جمال الدین ــ منفیًا ــ إلى الهند ـ وهی مستعمرة إنجلیزیة ـ فمکث فیها، محددة إقامته من قبل حکومتها الإنجلیزیة، حتّى تمت هزیمة الثورة العُرابیة، واحتلال الإنجلیز لمصر(1299 هـ /1882 م). وعندئذ سمح له الإنجلیز بمغادرة الهند، فسافر إلى باریس ـ العاصمة المنافسة لإنجلترا ـ وهناک لحق به الشیخ محمد عبده ـ وکان منفیًا ببیروت، بعد هزیمة العرابیین ومحاکمتهم. ومن باریس أصدرا مجلة العروة الوثقى لتعبر عن فکر وسیاسة التنظیم السری الذی أقامه الأفغانی، لمواجهة الاستعمار الإنجلیزی، وإنهاض المسلمین. وهو التنظیم الذی امتدت عقوده (خلایاه) إلى أغلب بلاد المسلمین ـ وخاصة مصر والهند ـ والذی استقطب صفوة العلماء المجددین والأمراء والساسة المجاهدین (تنظیم جمعیة العروة الوثقى) فکان هذا التنظیم ومجلته أهم مدارس الوطنیة الإسلامیّة والبحث الحضاری الإسلامی، التی تربى فیها وتعلم منها واستضاء بمنهاجها دعاة الیقظة والتجدید والإصلاح والثورة على امتداد العالم الإسلامی».
لقد رکز السیدجمال الدین على إیقاظ الأمة. وکان مشروعه یقوم على أساس:
ـ الجمع بین الأصالة والمعاصرة
ـ وعلى إیقاظ الشعور
أصالة ومعاصرة:
شهد العالم الإسلامی قبل السید حرکات إصلاحیة سلفیة فی الجزیرة العربیة (منذ 1744) وفی الجزائر علی ید عبدالقادر الجزائری (1832 ــ 1847) وفی السودان علی شکل حرکة المهدیة (1881 ــ 1898 ) وفی لیبیا بصورة الحرکة السنوسیة (1912 ــ 1925)، وتمیزت جمیعًا بالمقاومة والرجعة إلى الأصول([2]).
وإذا کانت هذه الحرکات قد استطاعت أن تحقق بعض النجاح فی مقاومة الاستعمار ومکافحة البدع فإنها فشلت تمامًا فی تحقیق (نهضة) شاملة بسبب عدم قدرتها على استیعاب مستجدات العصر، أی إنها کانت تفتقد المعاصرة. والحملة الفرنسیة فشلت أیضًا أن تحقق نهضة فی مصر، رغم کل الجهود التی بذلتها، لأنها لم تکن تنتمی إلى جذور الأمة، فأخفقت فی التفاعل، واستثارت الناس ضدها، وعادت من حیث أتت بعد حین.
أما السید فقد جمع بین الأصالة والمعاصرة فی دعوته، وهذا هو سر کل ما حققه من نجاح.
من مظاهر أصالة السید ارتباطه بالتراث الإسلامی وتمکنه من العلوم الإسلامیة مما جعل النابهین من الأزهریین فی مصر یلتفون حوله ویتلقون دروسه من أمثال: محمد عبده، وعبدالکریم سلمان، وإبراهیم اللقانی، وسعد زغلول، وإبراهیم طلباوی، وکانت هذه الدروس منطقًا وفلسفة وتصوفًا وهیئة، مثل کتاب الزوراء فی التصوف، وشرح القطب على الشمسیة فی المنطق، والهدایة والاشارات وحکمة العین وحکمة الاشراق فی الفلسفة، وتذکرة الطوسی فی علم الهیئة القدیمة([3]).
ومن مظاهر أصالته أیضًا اهتمامه بوحدة المسلمین بکافة قومیاتهم ومذاهبهم: فهو یدعو إلى نبذ الخصومة بین السنة والشیعة، لیؤلف بین سلطتین قویتین فی رقعة العالم الإسلامی إذ ذاک: بین إیران وسلطة القسطنطینیة، بعد ذهاب دولة الهند الإسلامیة.
وکان یغتنم کل فرصة للدعوة إلى وحدة المسلمین مستشعرًا الخطر من تفرقهم، ومهیبًا رجال الأمة أن یبذلوا الجهد من أجل تحقیق هذه الوحدة. یقول فی مؤتمر دعا له السلطان عبدالحمید فی الآستانة:
«الدیانة الإسلامیة فی الوقت الحاضر هی بمثابة سفینة ربّانها محمد بن عبدالله(ص) ورکاب هذه السفینة المقدسة کافة المسلمین خاصتهم وعامتهم.
وفی الوقت الحاضر أشرفت هذه السفینة على الغرق فی بحر السیاسة العالمیة، کما تعرضت لخطر الطوفان.
ولعل الحوادث الدبلوماسیة، والدسائس الدولیة، تؤدی إلى إغراق هذه السفینة وتحطیمها، فما حیلة رکابها وهی مشرفة على الغرق وما هو تدبیرهم؟ فهل یجب على رکاب هذه السفینة أن یبذلوا جهدهم لحراستها وإنقاذها من الطوفان والغرق؟ أم یظلوا مختلفین فیما بینهم، متبعین أغراضهم الشخصیة وأهواءهم الدنیئة؟»([4]).
ودفعت هذه الدعوة إلى توحید کلمة المؤمنین على العمل من أجل الوحدة الإسلامیة.
ومن مظاهر أصالته الدفاع عن الدین أمام التیارات الفکریة المنحرفة مثل ردّه علی المذهب الدهری الذی انتشر فی الهند فی النصف الثانی من القرن التاسع عشر. وفیه یقاوم الإلحاد الدینی بشکل عام ویوضح ضرورة الدین للمجتمع الإنسانی، ثم یذکر مزایا الإسلام التی تکفل للإنسان متعة فی هذه الحیاة أرفع بکثیر من تلک المتعة التی یهیؤها له اعتناق المذهب الطبیعی([5]).
أما طابع المعاصرة فیه فهو أبین وأوضح، وأهم معالمه دخوله ساحة الکفاح السیاسی لمقارعة الاستبداد الداخلی والاستعمار الأجنبی. لقد ظهرت دعوة السید فی عصر کان العالم الإسلامی یعانی من الحکام المستبدین الذین یمهدون باستبدادهم وطغیانهم لسقوط العالم الإسلامی بید المستعمرین الطامعین.
وکانت العقلیة العامة السائدة هی الاستسلام لهؤلاء الطغاة باعتبارهم أولیاء أمور، وباعتبارهم قضاء مقدرًا من السماء، ولذلک سادت حالة الذل والخضوع والملق بین الناس، وعم الظلم والفساد والطغیان. وفی هذا الجو ارتفع صوت السید لیقول للمصریین:
«إنکم معاشر المصریین قد نشأتم فی الاستعباد، وربیتم فی حجر الاستبداد، وتوالت علیکم قرون منذ زمن الملوک الرعاة حتى الیوم، وأنتم تحملون عبء نیر الفاتحین، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمین، تسومکم حکوماتهم الحیف والجور، وتنزل بکم الخسف والذل وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حیاتکم ومواد غذائکم التی تجمعت بما یتحلب من عرق جباهکم بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم معرضون. فلو کان فی عروقکم دم فیه کریات حیویة، وفی رؤوسکم أعصاب تتأثر فتثیر النخوة والحمیة لما رضیتم بهذا الذل وهذه المسکنة. تناوبتکم أیدی الرعاة ثم الیونان والرومان، والفرس، ثم العرب والأکراد والممالیک، وکلهم یشق جلودکم بمبضع نَصَبِه، وأنتم کالصخرة الملقاة فی الفلاة لا حسّ لکم ولا صوت.
هبوا من غفلتکم ...! اصحوا من سکرتکم! عیشوا کباقی الأمم أحرارًا سعداء» ([6]).
ومن مظاهر معاصرته أیضًا ارتباطه بالنخب المثقفة فی مصر من المثقفین والأدباء والشعراء خلافًا لما کان علیه عامة الأزهریین من انغلاق. کانت له إلى جانب دروسه العلمیة المنظمة جلسات مستمرة فی أحد مقاهی القاهرة قرب حدیقة الأزبکیة، یلتف حوله أنماط شتى من الراغبین فی التزود من علمه وفکره، وهو یجیب على الأسئلة «لا یسأم من الکلام فیما ینیر العقل، أو یطهر العقیدة، أو یذهب بالنفس إلى معالی الأمور أو یستلفت الفکر إلى النظر فی الشؤون العامة مما یمس مصلحة البلاد وسکانها، وکان طلبة العلم ینتقلون بما یکتبونه من تلک المعارف إلى بلادهم أیام العطلة، والزائرون یذهبون بما ینالونه إلى أحیائهم، فاستیقظت مشاعر، وتنبهت عقول، وخف حجاب الغفلة فی أطراف متعددة من البلاد خصوصًا فی القاهرة» ([7]).
یقول عمر الدسوقی: «فی هذه الحلقة أُنشئت مدرسة غیر مقیدة بمنهج أو کتاب، ولکنها کانت روحًا مشعة تبدد دیاجیر الغفلة، وتحیی العزائم المیتة، وتلهب الإرادات الخامدة وتفتح الأذهان المغلقة، وفیها تخرج محمود سامی البارودی، وعبدالسلام المویلحی، وأخوه إبراهیم المویلحی، ومحمد عبده، وإبراهیم اللقانی، وسعد زغلول، وعلی مظهر، وسلیم نقاش، وأدیب إسحاق وغیرهم. وفی هذه المدرسة العامة، استعرضت حال الأمة الاجتماعیة والسیاسیة، وحقوقها وواجباتها، وداؤها ودواؤها، وانتقد الحکام، وبثت التعالیم، وفشت روح التذمر من الأجانب وتدخلهم فی شؤون البلاد مما کان له أبلغ الأثر فیما بعد.
کان جمال الدین یقضی بیاض نهاره فی بیته یختلف إلىه أعضاء تلامیذه، وما إن یقبل اللیل حتى یخرج متوکئًا على عصاه إلى هذا المقهى، فیجد فی انتظاره الطبیب والمهندس والأدیب والشاعر والمعلم والکیمیاوی وغیرهم، ویظل یحدثهم بشغف وقوة حتى یمضی جزء کبیر من اللیل» ([8]).
ومن مظاهر معاصرته أیضًا دعوته إلى فتح باب الاجتهاد، لکی تواکب الشریعة المقدسة تطورات الظروف یقول:
«ما معنی أن باب الاجتهاد مسدود؟ وبأی نص سد؟ ومن قال لا یصح لمن بعدی أن یجتهد لیتفقه فی الدین ویهتدی بهدی القرآن وصحیح الحدیث والاستنتاج بالقیاس على ما ینطبق على العلوم العصریة وحاجات الزمن وأحکامه؟ إن الفحول من الأئمة اجتهدوا وأحسنوا ولکن لا یصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بکل أسرار القرآن، واجتهادهم فیما حواه القرآن لیس إلا فطرة، والفضل بید الله یؤتیه من یشاء من عباده» ([9]).
هذا الجمع بین الأصالة والمعاصرة هو الذی خلق النهضة الحدیثة فی مصر وانتشرت منها إلى سائر أرجاء العالم العربی .
أثر دعوته فی النهضة الحدیثة لا یمکن لباحث منصف أن ینکر أثر دعوة السید فی النهضة الحدیثة، بل إن کثیرًا من المفکرین من یعتقد أنه هو الذی فجّر هذه النهضة وهو الذی بعث الحیاة فی المجتمع العربی وغیر العربی.
عمر الدسوقی، بعد أن یتحدث عن النثر الفنی فی أواخر عصر إسماعیل وعهد توفیق وتحوله إلى نثر ینبض بالحیاة والحرارة، یقول:
«وإذا أردت أن تقف على الروح التی تکمن من وراء هذا الأدب الحی، والتی بعثت فی الشرق الإسلامی کله حیویة دافقة، وهزته هزة عنیفة أیقظته من نومه الطویل، وعرّفته کیف یطلب حقّه من الأقویاء العتاة، وکیف یدفع عن نفسه جور الظلمة القساة، فاعلم أن الروح تمثلت فی السید جمال الدین الأفغانی، من یدین له الشرق الإسلامی بیقظته القومیة والفکریة فی العصر الحدیث».
لقد کانت الکلمة التی أطلقها جمال الدین مرتبطة بجذور الماضی الإسلامی العریق ومتطلعة إلى مستقبل عظمة الأمة وعزتها ولذلک کانت ذات أثر بالغ، یقول مالک بن نبی:
«فالکلمة ــ یطلقها إنسان ــ تستطیع أن تکون عاملًا من العوامل الاجتماعیة حیث تثیر عواصف فی النفوس تغیر الأوضاع العالمیة.
وهکذا کانت کلمة جمال الدین، فقد شقت کالمحراث فی الجموع النائمة طریقها فأحیت مواتها، ثم ألقت وراءها بذورًا لفکرة بسیطة: فکرة النهوض، فسرعان ما آتت أکلها فی الضمیر الإسلامی ضعفین وأصبحت قویة فعالة، بل غیرت ما بأنفس الناس من تقالید، وبعثتهم إلى أسلوب فی الحیاة جدید.
وکان من آثار هذه الکلمة أن بعثت الحرکة فی کل مکان، وکشفت عن الشعوب الإسلامیة غطاءها، ودفعتها إلى نبذ ما کانت علیه من أوضاع ومناظر، فأنکرت من أمرها ما کانت تستحسن، واتخذت مظاهر جدیدة لا تتلاءم حتى مع ثیابها التی کانت تلبسها، فنبذت النرجیلة والطربوش والحرز والزردة([10]). ولقد بلغ تأثیر تلک القوة الفعالة الجزائر فأخذت منها نصیب» ([11]).
وللأستاذ محمد عبده نص صریح یوضح لنا حالة مصر قبل أن یهبط وادیها السید جمال الدین (سنة 1871) وفیه معلومات على غایة من الأهمیة توضح لنا أن حملة نابلیون وما أعقبها من اتصال المصریین بأوروبا فی زمن محمد علی باشا وإبراهیم باشا لم یعد بثمر على المصریین، یقول:
«إن أهالی مصر قبل سنة 1293 هـ کانوا یرون شؤونهم العامة بل والخاصة ملکًا لحاکمهم الأعلى، ومن یستنیبه عنه فی تدبیر أمورهم، یتصرف فیها حسب إرادته، ویعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم موکولان إلى أمانته وعدله أو خیانته وظلمه، ولا یرى أحد منهم لنفسه رأیًا یحق له أن یبدیه فی إدارة بلاده. أو إرادة یتقدم بها إلى عمل من الأعمال یرى فیه صلاحًا لأمته، ولا یعلمون من علاقة بینهم وبین الحکومة سوى أنهم مصرفون فیما تکلفهم الحکومة به وتضربه علیهم. وکانوا فی غایة البعد عن معرفة ما علیه الأمم الأخرى سواء کانت إسلامیة أو أوروبیة ـ ومع کثرة من ذهب منهم إلى أوروبا وتعلم فیها من عهد محمد علی الکبیر إلى ذلک التاریخ، وذهاب العدد الکثیر منهم إلى ما جاورهم من البلاد الإسلامیة أیام محمد علی باشا الکبیر وإبراهیم باشا لم یشعر الأهالی بشیء من ثمرات تلک الأسفار، ولا فوائد تلک المعارف، ومع أن اسماعیل باشا أبدع مجلس الشورى فی مصر سنة 1283، وکان من حقه أن یعلم الأهالی أن لهم شأنًا فی مصالح بلادهم، وأن لهم رأیًا یرجع إلىه فیها، لم یحس أحد منهم ولا من أعضاء المجلس أنفسهم بأن لهم ذلک الحق الذی یقتضیه تشکیل هذه الهیئة الشوریة، لأن مبدع المجلس قیده فی النظام وفی العمل، ولو حدث إنسانا فکره السلیم بأن هناک وجهة خیر غیر التی یوجهها إلىه الحاکم لما أمکنه ذلک؛ فإن بجانب کل لفظ نفیًا عن الوطن، أو إزهاقًا للروح، أو تجریدًا من المال» ([12]).
ثم یتحدث محمد عبده عن وضع الشعب المصری بعد أن استیقظ من سباته یقول:
«ومما تقدم سرده تعلم أن أهالی بلادنا المصریة دبت فیهم روح الاتحاد، وأشرفت نفوسهم على مدارک الرأی العام، وأخذوا یتنصلون من جرم الإهمال، ویستیقظون من نومة الإغفال، وقد مرت علیهم حوادث کقطع اللیل المظلم، ثم تقشعت عنهم فطالعوا من سماء الحق ما کحل عیونهم بنور الاستبصار، حتى اشرأبت مطامعهم إلى بث أفکارهم فیما یصلح الشأن ویلمّ الشعث ویجمع المتفرق من الأمور لیکونوا أمة متمتعة بمزایاها الحقیقیة، فهم بهذا الاستعداد العظیم أهل لأن یسلکوا الطریق الأقوم، طریق الشورى والتعاضد فی الرأی» ([13]).
ویقول جرجی زیدان عن جمال الدین: «هو إمام هذه الحرکة الاجتماعیة فی الشرق، بدأ عمله فی أفغانستان وبلاد فارس، ثم نزل وادی النیل فی زمن إسماعیل، فالتف حوله الأدباء والکتاب یأخذون عنه ویقتدون به، فذاعت شهرته ونبغ من تلامیذه طبقة من الأحرار، أهل الجرأة فی السیاسة والأدب والإصلاح، فثارت الأفکار. وکان ذلک مما ساعد على إضرام الثورة العُرابیة فأُبعد إلى کلکتا وبقی فیها حتى انقضت الثورة فأطلق سراحه فسافر إلى أوروبا ونزل باریس وأنشأ فیها (العروة الوثقی) یحررها مع صدیقه محمد عبده، ولم یطل ظهورها. وتقلبت علیه أحوال شتى، وانتهى أخیرًا إلى الآستانة بجوار عبد الحمید وکان یجلّه ویهابه وبقی هناک حتى مات سنة 1897.
ولم یخلّف کتبًا تستحق الذکر، لکنه خلف روحًا جدیدة فی نفوس الشرقیین، وکان غرضه السیاسی توحید کلمة المسلمین وجمع شتاتهم فی ظل دولة واحدة، فلم یوفق إلى ذلک، لکنه وفق إلى تحریک الهمم واستحثاث الخواطر إلى السعی فی هذا السبیل» ([14]).
وبمناسبة الإشارة إلى ثورة أحمد عرابی باشا، لا بأس أن نذکر أن هذا الرجل هو من ثمار الصحوة التی أوجدها السید جمال الدین، فقد قاد الجیش فی ثورته ضد توفیق باشا. وکان همه الأول تخلیص المصریین من العذاب والذل والسخرة والاستغلال([15]). وسانده عن قناعة أو عن رضوخ للأمر الواقع کبار الشعراء والأدباء من أمثال عبدالله الندیم ومحمود سامی البارودی، ومحمد عبده، واستعان الخدیوی بالإنجلیز، فقضوا على هذه الثورة ونکلوا بالأحرار.
جمال الدین والأدب العربی فی مصر:
الأدب مظهر من مظاهر حیاة المجتمع، فإذا کانت هذه الحیاة متحرکة متّقدة خلاّقة کان الأدب متسمًا بسماتها، وإذا أصیبت بعاهة انتقلت إلى الأدب أیضًا، ولذلک نرى الأدب فی عصر الرکود والانحطاط لا یعدو أن یکون «مهارة لفظیة، وقدرة على التفوه بعبارات شعریة ونثریة لا حیاة فیها، ولا عاطفة ولا قوة، وإنما غرضها إظهار البراعة فی اقتناص ألوان البدیع؛ حتى إنهم لیخلّون بالإعراب فی الکلمات والتصریف، إذا تعارض الأعراب أو التصریف مع ما یریدونه من جناس أو طباق، ویفسدون بنیة الکلمة، عساها تصادق ما یجرون وراءه من هذه الحلی التی یسترون بها عورات لغتهم الرکیکة وأفکارهم السقیمة، وخیالاتهم المریضة»([16]).
الأدب العربی قبل السید لم یکن یختلف کثیرًا عن عصر الانحطاط، ولم یکن للاتصال الأوروبی عن طریق الحملة أو البعثات أو الارسالیات أثر یذکر على الأدب العربی. أما بعد نهضة السید فقط تطور الأدب تطورًا واسعًا بشعره ونثره، لما کان لهذه النهضة من أثر عمیق فی ضمیر هذه الأمة ووجدانها.
ولا أدلّ على ما ذکرنا من أن رائد النثر العربی الحدیث محمد عبده ورائد الشعر الحدیث محمود سامی البارودی هما من تلامیذ السید جمال الدین.
تأثیره المباشر على الأدب العربی فی مصر:
إلى جانب النهضة الاجتماعیة التی أوجدها السید، وتأثیر هذه النهضة على الأدب، کان لجمال الدین دور مباشر فی دفع حرکة الأدب وتطویرها نلخصها بما یلی:
1- أرشد السید تلامیذه الکتاب إلى التحرر من القیود الثقیلة التی کانت ترسف فیها الکتابة الإنشائیة من محسنات بدیعیة مختلفة، وسجع متکلف ممقوت، واستعارات غریبة وغیر ذلک مما أفسد المعنى وستر الأفکار عن الوضوح والجلاء، کما أرشدهم إلى تجنب المقدمات الطویلة؛ وطبیعی أن یصرفهم إلى الاهتمام بالمعانی، لأن هناک أشیاء کثیرة یریدون الإبانة عنها والإفاضة فیها. ولا یتسع هذا النثر المقید لکل تلک المعانی، ولا یستطیع إیضاحها کاملة([17]). وظهرت هذه التوجیهات فی أسلوب محمد عبده وأدیب إسحاق وعبدالله الندیم وأحمد عرابی وغیرهم کثیر.
2- لم یکن السید جمال الدین من المطبوعین على الأسالیب العربیة الجمیلة، لکنه فیما کتبه من مقالات قدم نماذج جیدة على الأسلوب المتحرر من السخافات والجمود.
لقد کان قادرًا على تفتیق المعانی وتولید الأفکار. یقول تلمیذه محمد عبده:
«له سلطة على دقائق المعانی وتحدیدها وإبرازها فی الصورة اللائقة بها کأن کل معنى قد خلق له، وله قوة فی حل ما یعضل منها کأنه سلطان شدید البطش، فنظرة منه تفکک عقدها. کل موضوع یلقی إلىه یدخل للبحث فیه کأنه صنع یدیه، فیأتی على أطرافه، ویحیط بجمیع أکنافه، ویکشف ستر الغموض عنه فیظهر المستور منه، وإذا تکلم فی الفنون حکم فیها حکم الواضعین لها، ثم له فی باب الشعریات قدرة على الاختراع، کأن ذهنه عالم الصنع والإبداع».
ویقول فی موضع آخر متحدثًا عن تأثیر السید فی نشوء جیل من الکتاب فی مصر: «کان أرباب العلم فی الدیار المصریة، القادرون على الإجادة فی المواضیع المختلفة منحصرین فی عدد قلیل. وما کنا نعرف منهم إلاّ عبدالله باشا فکری، وخیری باشا، ومجد باشا سید أحمد، على ضعف فیه، ومصطفى باشا وهبی، على تخصص فیه، ومن عدا هؤلاء، فإما ساجعون فی المراسلات الخاصة، وإما مصنفون فی بعض الفنون العربیة أو الفقهیة وما شاکلها؛ ومن عشر سنوات ترى کتبة فی القطر المصری لا یُشق غبارهم، ولا یوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث فی السن، شیوخ فی الصنعة وما منهم إلا أخذ عنه (عن السید جمال الدین) أو عن أحد تلامیذه أو قلد المتصلین به» ([18]).
3- شجّع جماعة من الکهول والشبان على إنشاء الجرائد، والکتابة فیها. فطلب إلى الشیخ محمد عبده وإبراهیم اللقانی وغیرهما أن یشترکا فی تحریر جریدة التجارة التی أنشأها أدیب إسحاق، وکتب هو بنفسه فیها. وتدخل فی تحریر الوقائع المصریة وطلب إلى الکتّاب أن یدبّجوا مقالاتهم فی موضوعات تمسّ حیاة الأمة فی صمیمها، وحرّض الصحفی الیهودی (یعقوب بن صنّوع) على إصدار جریدته التهکمیة «أبی نضارة» ویشجعه على الاستمرار فی النقد الذی یلذع به إسماعیل([19])».
4- من الملفت للنظر أنه شجع على ترجمة الأدب الاوروبی، وخاصة ذاک الذی یحمل روحًا ملحمیة، واعتبر أن نقل هذا اللون من الأدب إلى العربیة أکثر فائدة من نقل الفلسفة الیونانیة. وهذا یؤیّد اهتمامه بیقظة الروح أکثر من اهتمامه بالفکر. یُذکر مثلًا أنه «هو الذی شجع سلیمان البستانی على ترجمة الإلیاذة لهومیروس فقال کما یروی البستانی نفسه: إننا یسرّنا أن نفعل الیوم ما کان یجب على العرب أن یفعلوه قبل ألف عام ونیف. ویا حبذا لو أن الأدباء الذین جمعهم المأمون بادروا إلى نقل الإلیاذة بادئ ذی بدء، ولو ألجأهم ذلک إلى إهمال الفلسفة الیونانیة برمتها) ([20]).
أفول النهضة فی مصر:
ربّ سائل یسأل عن مصیر هذه النهضة، ولماذا لم تحقق فی العالم العربی ما حققته نهضة أوروبا فی الغرب ونهضة الیابان فی الشرق. والجواب أن هذه النهضة انتکست على ید المستعمرین وبطشهم وخططهم العسکریة والسیاسیة والاقتصادیة والثقافیة. ولولا هذه النکسة لبلغت مصر فی التنمیة مستوى لا یقل عما بلغته الیابان، ولعمّت هذه الروح کل العالم العربی والإسلامی.
لقد دفع عرابی باشا بالنهضة إلى مواجهة حادّة مع أعدائها؛ بینما کانت تشقّ طریقها بسرعة إلى القلوب والأرواح، ونتج عن ذلک دخول البریطانیین لیبطشوا بالأحرار وینکّلوا بهم أشدّ التنکیل، إلى جانب نشاط مدروس لتمییع شخصیات النهضة وتذویبهم ، فکانت النتیجة أن لم تحقق النهضة أهدافها وانحرفت عن مسیرتها.
فی نهایة القرن التاسع عشر ظهر جیل من تلامیذ السید یحملون روحه ودعوته، فیهم السیاسیون والکتاب والشعراء والعلماء من أمثال: محمد عبده، وعبدالکریم سلمان، وإبراهیم اللقانی، وسعد زغلول وإبراهیم طلباوی ومحمود سامی البارودی، وعبدالسلام المویلحی، وإبراهیم المویلحی، وعلی مظهر، وسلیم نقاش وأدیب إسحاق وسلیمان البستانی، وعبدالله الندیم، وعبدالرحمن الکواکبی، وسید بن علی المرصفی.
وعلى ید هذا الجیل تربى أمثال المنفلوطی وطه حسین والزیات ومصطفى صادق الرافعی وإبراهیم الیازجی وأحمد الحمصانی وقاسم أمین وغیرهم کثیرون.
ولاتزال هذه الروح التی أوجدها السید تتراءى ولو بشکل ضعیف فی کثیر من الکتّاب والأدباء والشعراء وأصحاب الحرکات السیاسیة فی العالم العربی. غیر أن المسیرة تعثرت منذ خطواتها الأولى ولم تطو مراحل کمالها، ومن المؤمل أن تکون الصحوة الإسلامیة الأخیرة ــ رغم تعثرها ــ بدایة عودة حقیقیة إلى أن تمارس مصر دورها الحضاری على صعید العالم العربی والإسلامی.
عبدالکریم الزنجانی (1304 -1388هـ / 1887 -1968م)
الشیخ عبدالکریم بن محمد رضا بن محمد حسن بن محمد علی النجفی ثم الزنجانی. إن نَسَبتَه إلى زنجان فذلک لأنه ولد فیها وترعرع، وإن نسبته إلى النجف فلأن جدّه هاجر من النجف إلى زنجان، وهو نفسه هاجر من زنجان إلى النجف، والأفضل أن ننسبه إلى دائرة الحضارة الإسلامیة الواحدة التی کانت حواضرها إلى زمن قریب مأوى لکل العلماء على اختلاف انتماءاتهم.
بعد أن أتمّ مقدمات دراسته فی مسقط رأسه هاجر إلى طهران.. ویبدو أن هذه الهجرة إلى العاصمة هی التی فتحت أمام عبدالکریم الشاب آفاق ما یجری فی العالم الإسلامی من أحداث، وجعلته یتفاعل بها.
ویظهر أن طموحه العلمی دفعه أن یهاجر وهو فی الثانیة والعشرین من عمره إلى النجف فی العراق، لأن الدراسة فیها کانت مطمح أنظار کل الذین یریدون بلوغ درجة الاجتهاد آنئذ.
ولم یکتف الشاب الزنجانی بالدراسات الفقهیة والأصولیة بل اتجه إلى دراسة الفلسفة أیضًا وتعمّق فیها، وعلى الرغم من نشأته الترکیة الفارسیة (لغة موطنه الأول زنجان) أجاد العربیة وکتب فیها ما یربو على سبعین مؤلفًا، بل وأصبح أیضًا من الخطباء بهذه اللغة، تشهد له خطبه فی القاهرة ودمشق أمام العلماء والأدباء وکبار الشخصیات.
انفتاح الشیخ الزنجانی:
انفتاح الرجل نتلمسه من:
1ـ اتجاهه إلى التعمق فی الفلسفة إضافة إلى الدروس الرسمیة فی الحوزة.
2- إجادته السریعة للغة العربیة إلى جانب لغته الأم (الفارسیة والترکیة).
3- أسفاره الکثیرة إلى أقطار العالم الإسلامی.
4- تتّبعه لما یجری فی الأمة من حوادث، واتخاذه المواقف الجادّة من محاولات التفرقة بین المسلمین کما سنرى.
5- التنوع فی مؤلفاته، مما یدلّ على أنه کتبها تلبیة لحاجة المجتمع، فنرى إلى جانب کتبه الفقهیة، کتبًا فی التربیة والتعلیم والأخلاق وکتبًا فی المسائل الاجتماعیة والاقتصادیة، بل کتب أیضًا فی «السیاسة الإسلامیة» إضافة إلى کتبه الفلسفیة عن ابن سینا والکندی و«تطور الفلسفة».
هذا الانفتاح جعله یحمل همّ العالم الإسلامی بکل ما یحیط به من تحدیات، ولذلک اندفع بقوّة نحو مشروع وحدة الأمة الإسلامیة. والمشروع یمکن تلخیص معالمه فیما یلی:
1ـ مرکزیة الوحدة الإسلامیة فی رسالته وحرکته، وهذا واضح فی نشاطاته المذکورة حتى لقبته الصحافة المصریة وبعض العلماء هناک برسول الوحدة الإسلامیة.
2- لم یکتف الشیخ الزنجانی بنشر دعوته الإصلاحیة الإنسانیة بمجرد الکتابة والنشر والمراسلة، بل أخذ یجوب الأرض، ویرکب البحر، ویزور الأقطار العربیة والعواصم الإسلامیة، ناشرًا ومبلّغًا ومحاضرًا فی قضیة الوحدة الإسلامیة.. فسافر إلى مصر وسوریا ولبنان وشرق الأردن وفلسطین وإیران والهند والباکستان والقفقاز وغیرها وهو یحمل معه هموم الوحدة.. ولم یدخل بلدًا إلا وترک فیه أثارًا خالدة.
3- کان یتحرک على أکثر من صعید ابتداءًا من الصعید الأهلی والاجتماعی إلى صعید المؤسسات والمراکز العلمیة والدعویة إلى الصعید الرسمی مع الدول والحکومات..
4- إن قضیة کبرى کقضیة الوحدة الإسلامیة لا تعطی ثمارها بین عشیة وضحاها، بل کانت بحاجة إلى وقت طویل وعمل لا ینقطع وعطاء لا ینضب، وهکذا أعطى الشیخ الزنجانی من نفسه لهذه القضیة الکبرى فی الأمة، فصرف ما یزید على نصف قرن من الزمن لدعوته الإصلاحیة.
5- کان یعتقد أن قضیة الوحدة الإسلامیة قد خرجت عن طور الدعوة والبرهان، والحجة والبیان، وصارت بحیث ترى ضرورتها بالعین وتلمس بالید، وإنما الأمر المهم الیوم السعی والعمل والدعوة الجدیة العملیة والاستغناء عن الکتابة والأقوال بالجهود والأعمال.. نحن یلزمنا العمل، یلزمنا الصدق، یلزمنا الإخلاص، یلزمنا التضحیة > وَالَّذِینَ جَاهَدُوا فِینَا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِینَ[21]).
6- کان یدرک قیمة الإعلام فی نجاح وتقدم مشروعات الوحدة الإسلامیة وکان یعتقد «أن الدعایة للاتحاد فی أمتنا العربیة والإسلامیة لا تزال ناقصة غیر مأخوذة بأطرافها من جمیع النواحی فکل ما نسمعه ونطالعه فی هذا الشأن محدود المسافة» ([22]).
7- لا نحتاج کثیرًا لوصف فضائل الوحدة ووجوب التضامن وضرورة الاتحاد. وقد علم المصلحون والمفکرون وقادة الرأی أن الأمة الإسلامیة لم یستفزها هذا الوتر إلا بصورة مؤقتة. فالمجتمع الإسلامی کما کان یراه الشیخ الزنجانی بحاجة إلى تجدید فی أسالیبه وخططه ومشاریعه لتکون أکثر عملیة وأکثر فاعلیة وقربًا للغایة المنشودة.
8- إن دعوات المصلحین للوحدة الإسلامیة حینما لم تصل إلى النتائج المرضیة کان یجب البحث عن سر ذلک. ففی تقویمه یقول الشیخ الزنجانی: «لقد دعوا إلى نبذ العداوة والبغضاء فلم یجدوا غیرهما، أفلم یلزم السعی إلى اکتشاف ناحیة الضعف؟ ومعرفة ما للمسلمین من نفسیات یتبادلون فیها سوء الظن وقبح التصور؟ نشأت من قضایا تاریخیة وحوادث قدیمة تأثرت بها الأجیال وتوارثها الأعقاب فیسیرهم بها أعداء الإسلام نحو التنابذ والخصام، ومعالجة هذا الضعف فی تصور الشیخ الزنجانی «بتعریف کل فرد واجبه وکیفیة القیام به» ([23]).
«فالدسائس الاستعماریة کانت ولا تزال تحاک حول المصلحین فی أمتنا العربیة والإسلامیة. أفلم یُتهم الإمام المصلح الشیخ «محمد عبده» بأنه ملحد، وأنه صنیع الانجلیز، کما اتهم به الزعیم سعد زغلول ([24])؟!
10- لقد أبدع الشیخ الزنجانی فی الأبعاد الفلسفیة لمسألة الوحدة والتعاون بربط أنظمة الکون بنظام المجتمع، حیث أن الله سبحانه وتعالى خلق الکون مترابطًا، کلّ جزء یحتاج إلى الآخر ولا یستغنی عنه وهذا هو الحال فی نظام الحیاة والمجتمع.
أسفاره وخطبه:
ذکرنا أن الشیخ الزنجانی انفتح على هموم العالم الإسلامی وهذا ما دعاه إلى أن یجول أقطار المسلمین یدعوهم إلى فکرته فی الاتحاد ونبذ التعصّب وتآلف القلوب، ونکتفی برحلته إلى مصر.
فی الأزهر الشریف:
لقد اقترنت زیارة الشیخ الزنجانی للأزهر بتولی الشیخ محمد مصطفى المراغی مشیخة هذا المعهد العلمی الکبیر، والشیخ المراغی من کبار الشخصیات الحضاریة، ولذلک حظی الشیخ الزنجانی بحفاوة بالغة. أقام المراغی لضیفه فی 10 نوفمبر 1936 حفل استقبال حضره کبار علماء الأزهر وعمداء الکلیات وعدد من الوزراء والسفراء وکثیر من رجال العلم والأدب والأعلام. وبعد أن قدّم المراغی ضیفه وأشاد بمکانته العلمیة ومناقبه وفضله، أکد الإمام المراغی على مساحة علمیة هامة هی اللقاء بین المعهدین العلمیین الکبیرین فی القاهرة والنجف (الأزهر والحوزة العلمیة)، وقال:
«وقد رأیتم أننی جعلت تکریم فضیلة الإمام الأستاذ الزنجانی فی إدارة الأزهر لأجعل فی ذلک إشعارًا بأننا نقصد بتکریم فضیلته وتقدیر علومه وشمائله الاعتراف بالتقدیر والتحیّة لمعهد النجف الأشرف الذی نرجو أن نقوم بواجب الزیارة له، ومدفنه الشریف، تأکیدًا لروابط العلم والأخوة الإسلامیة. وقد أرید من هذا الاحتفال فی هذا المکان أن نرسل تحیة الأزهر والأزهریین إلى معهد النجف الأشرف وعلماء النجف مراجع إخواننا الشیعة الإمامیة تحیة خالصة یرسلها مسلمون إلى إخوانهم المسلمین فی هذا المعهد العظیم».
واغتنم الشیخ الزنجانی هذه الالتفاتة العلمیة التقریبیة الهامة فراح یؤکد علیها مبینًا مکانة النجف فی التاریخ العلمی فقال:
«إنّی أشعر بسعادة عظیمة وغبطة لوجودی بین هذا الحفل العلمی الکریم الذی تأیّد فیه نجاح جهودنا الجبّارة فی سبیل توحید شعور المسلمین، وتقویة الروابط الدینیّة بینهم ــ على اختلاف أوطانهم ــ وإذکاء روح الأخوة الإسلامیة فی طوائفهم المختلفة. وأرى جلیًّا أنَّ وجوه النظر بین الطائفتین الإسلامیتین الکبیرتین: الشیعة والسنّة قد تقاربت بمساعینا ومساعی فضیلة الأستاذ الأکبر الإمام المراغی، وتجلّت حقیقة هذا التقارب فی التشریعات الحدیثة، واستنباط الأحوال الشخصیّة فی مصر من تعالیم جمیع المذاهب الإسلامیة، وفی ضمنها مذهب الشیعة الإمامیّة، وکذلک تجلّت حقیقة الأخوّة الإسلامیة فی هذا الاحتفال العظیم التاریخی الذی أقامه الأزهر الشریف تکریمًا للنجف الأشرف.
ولا یخفى على حضراتکم أنَّ النجف الأشرف (مدفن الإمام الأعظم أمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب علیه السلام) کعبة العلوم الدینیة والفلسفیة والعربیة، تقصدها الوفود الإسلامیة من جمیع القارّات، لیتفقَّهوا فی الدین ولغة القرآن الکریم، وینشروا ذلک فی قومهم إذا رجعوا إلیهم.
وأنَّ معاهد النجف الأشرف أُنشئت منذ ألف سنة تقریبًا لتخریج المجتهدین والفلاسفة وعلماء الفقه الإسلامی الذی له تاریخه المجید، وآثاره العظیمة فی الحیاة الفردیة والنظم الاجتماعیة، فهو جامع لمجموع الحکمة العملیة، والعلوم الحقوقیة، وفنون العلوم من الاجتماعی والاقتصادی والأسری والسیاسی والثقافی والعمرانی والدینی والخلقی والقضائی والشرع الدولی، وعوامل التربیة المقصودة. والفقه الإسلامی غنی بالمبادئ التی تحقّق السعادة للإنسان فی شخصه، وفی علاقته بغیره، وقد بُنیت علیه المدنیّة الإسلامیة فی عصورها الزاهرة، کما عنی به الغربیّون باعتباره مصدرًا قویمًا من مصادر التشریع.
النجف الأشرف قلب الإسلام النابض، وعَلَمه الخفّاق، ومصباحه الوهّاج الذی تعاقبت علیه الأجیال والقرون وهو یرسل أشعَّة العلوم والإیمان والتُقى ومکارم الأخلاق إلى مشارق الأرض ومغاربها، وبفضل علمائها انتشرت روحانیة الإسلام فی أقطار الأرض، واهتدت الأمة الإسلامیة إلى ما فیه مصلحتها. وهکذا أخذ المهتدون سمتهم فی طریق الحیاة الخالدة، مهتدین بنوابغ أعلامها الذین شقّوا منها الصالح فی وسط المشاکل المدلهمَّة والظلمات المتکاثفة، وتوالت الأیّام على هذه الأمّة، وهی تستنیر بشموسها وأقمارها ونجومها السواطع، فتنسج على منوالهم، وتعوذ بهم فی الطوارئ.
وغیر خفیٍّ علیکم ــ أیّها السادة ــ أنَّ بغداد کانت عاصمة الثقافة والعلوم فی الشرق کلّه، بل فی العالم ردحًا من الزمن، وبعد سقوطها وضیاع ذخائرها العلمیة اضطلع معهدان بحمل عبء المعارف الإسلامیة والعلوم الدینیة فی الشرق، فصار کلٌّ منهما المثابة الأخیرة والقبلة التی یؤمّها طلاّب العلم من جمیع الأقطار:
الأوّل: معهد النجف الأشرف فی العراق. وقد أسسّه الطوسی شیخ الطائفة الإمامیة، وکان ــ ولایزال ــ نبراسًا تستضیء بنوره الأمم الإسلامیة، ومنبعًا غزیرًا للعلوم الدینیة والفلسفیة والعربیة، والفنون الأدبیة واللغویّة منذ عشرة قرون تقریبًا.
والثانی: معهد الأزهر الشریف فی مصر الذی حمل تلک الأمانة أحقابًا طوالاً فی الشرق العربی.
وکان هدف هذین المعهدین العلمیین الدینیین واحدًا، وکان مؤسّساهما من الشیعة، فهل نرید للشیعة مأثرة أعظم منهما؟ وهما وإن افترقا فی الخطّة بعد حین، ولکنّهما احتفظا على بثِّ الثقافة الإسلامیة والعربیة حتى الآن.
ویمتاز معهد النجف الأشرف بما وصفه الأستاذ الأکبر، وهو أنَّ العلم فیه مقصد وغایة، لا وسیلة، ومحبوب مطلوب لذاته لا لغیره، ومرغوب فیه لذاته. ویمتاز أیضًا بغزارة موادّ الدراسة فیه من أنواع العلوم والفلسفة، کما أنَّ معهد الأزهر الشریف ممتاز بحسن النظام، وجودة المناهج.
ویسرُّنی أنْ أُصرِّح بأنَّ ما شاهدته فی الأزهر من أقسامه الحدیثة، إلى کلیاته، إلى أقسامه الابتدائیة، إلى إداراته من آثار الإصلاح العلمی، والنظام الحدیث، سواء فیما یتعلّق بمبانیه الفخمة، أو قوانینه ونظمه ومناهج الدراسة فیه، قد دلَّنی على المقدار العظیم الذی یتمتَّع به الشیخ الأکبر من التفکیر العلمی ورجاحة العقل.
وقد أقام فضیلته الدلیل الواضح للمسلمین ولعلمائهم على مکانة الأزهر العلمیة، وعلى إنتاج الأزهر العلمی فی هذا العصر الحدیث، وأثره العظیم فی تحقیق الوحدة الإسلامیة. ودلَّ بحقّ على أنّه جدیر بأن یُلقَّب بشیخ الإسلام والمسلمین، وجدیر بهذا المعهد أنْ یکون على رأسه شیخ جلیل مثله، یسیر به فی الطریق المؤدّیة إلى الغایة التی یطلبها أهله وسائر المسلمین فی أقطار الأرض، بل یطلبها معهم سائر الشرقیّین الذین یعتزّون بأقدم جامعة لهم فی الشرق بعد جامعة النجف الأشرف.
وفی الختام أشارک فضیلة الأستاذ الأکبر فی تمنّیاته أن یزور فضیلته وبعض علماء الأزهر معهد النجف الأشرف، بل أعدّ هذه الزیارة من أسعد الفرص لنا ولمعهدنا، ولاشکَّ فی أنّ الرابطة بین أهل العلم الواحد واجب من أقدس الواجبات التی یجب أن تتوثَّق بین علماء الإسلام ومذاهبه وفرقه، فإن العلم رحم بین أهله، ومن المأمول فی علماء الدین الحنیف أن یستقصوا أحوال الشعوب الإسلامیة، وأن یقفوا على جلیّة ما هی علیه من خیر أو شرٍّ فی کلّ لحظة; لیبصّروها فی سبیلها، ویبعثوا فی صدورها الهمم والغیرة، ویتقدَّموا لها بالدفاع والاحتجاج حتى یجمعوا کلمتها، ویوحّدوا شعورها وصفوفها، وینالوا ثقتها «ومن لم یهتَّم فی شؤون المسلمین فلیس منهم» وأن یدفعوا عن الدین بأموالهم وأنفسهم، وأن ینفروا خفافًا وثقالاً، ینشرونه فی البلاد، وینصرونه، ویدفعون عنه افتراء المفترین فی جمیع الجهات; لیعزَّهم الله وینصرهم ویثبِّت أقدامهم».
وبعد أن حان وقت المغرب قدّم الشیخ المراغی ضیفه لیؤم المصلین. وکانت هذه البادرة هی الأخرى دلالة على الروح الحضاریة فی الأزهر الشریف وفی إمامه الشیخ المراغی آنئذ.
زیارة المعاهد الأخرى:
وبدعوة من السید محمد الخضر زار الشیخ الزنجانی جمعیة الهدایة الإسلامیة فی القاهرة وألقى هناک کلمة. وزار أیضًا جمعیة الشبان المسلمین، فأقیم لاستقباله حفل ضخم، قدّمه فیه الشیخ عبدالوهاب النجار، ثم ألقى کلمة بیّن فیها الأسس الفلسفیة للوحدة الإسلامیة، وأوضح بعض ما یثار من شبهات طائفیة، وکانت له أیضًا فی القاهرة لقاءات وخطب أخرى.
مراسلاته :
ثمة مراسلات عدیدة فی ملف الشیخ الزنجانی بینه وبین الشیخ محمد مصطفى المراغی إمام الأزهر الشریف.
نختار واحدة منها، ففیها فکرة یطرحها المراغی بشأن تشکیل مجلس أعلى للمسلمین عامة بمختلف مذاهبم، وهی فکرة لا تزال حیّة تنتظر التنفیذ، وجواب الشیخ الزنجانی عنها:
حضرة صاحب الفضیلة الأستاذ الجلیل السیّد عبدالکریم الزنجانی ـ العراق ــ النجف الأشرف حضرة السیّد العظیم والأستاذ الجلیل السلام علیکم ورحمة الله
وبعد، فإنِّی أعترف بتقصیر لاینفع معه العذر، ولکنّ الأمل فی ساحتکم الواسعة یخفّف الألم من الشعور بهذا التقصیر.
أمامی خطابکم المؤرّخ 8/9/1356 وأنا معک بقلبی کلّه، أشعر کما تشعر بحال المسلمین، وأظنٌّ أنَّ خطابک یشیر إلى حوادث الأقالیم الشمالیة فی الهند بین الشیعة وأهل السنّة، وقد کان ذلک فی العام الماضی قبل سفر البعثة الأزهریة، وذلک أنی بحثت وکلّفت بعض من یتابع قراءة الجرائد الهندیة، فلم أعثر على جدید.
لعلّک سمعت خطبتی یوم عید النحر فی الرادیو أو قرأتها فی الجرائد، ولعلّک تقرأ من وقت لآخر شیئًا عمّا أحاوله من الوحدة بین المسلمین، وفی ذلک کلّه ترانا على رأی واحد، ومبدأ واحد هو الوحدة الإسلامیة.
وأنّی أعرض علیک الآن رأیًا، وهو أن یوجد مجلس إسلامی أعلى للنظر فی أحوال المسلمین: أمراضهم وعللهم، وما ینفع فی علاجهم، ویوحّد تعلیمهم وثقافتهم، ویقرّب بین طوائفهم ومذاهبهم، وأن یمثِّل جمیع المسلمین فی هذا المجلس تمثیلاً حکومیًا أو تمثیل غیر حکومی، وإنّی أعتقد أنَّ مثل هذا المجلس سیکون له من الشأن ما یُخفّف ما تشعر به أنت، وأشعر به أنا.
أرجو عرض هذا الرأی على الإخوان، وإفادتی ما ترون، وبتفصیل ما ترون، والجهة التی ترونها صالحة لهذا، هل هی مصر أو بلد آخر، ومتى وافقتم على هذا الرأی فأرجو أخذ رأی أهل العراق غیر الشیعة. والسلام على جمیع الإخوان ورحمة الله
محمد مصطفى المراغی 26 ذو الحجة 1356 هـ / 26 فبرایر 1935م
رسالة الشیخ الزنجانی جوابًا على رسالة شیخ الأزهر السابقة:
حضرة صاحب الفضیلة الأستاذ الأکبر الشیخ محمد مصطفى المراغی شیخ الجامع الأزهر/القاهرة
السلام علیکم ورحمة الله وبرکاته
وبعد، فقد تسلّمت کتابکم الکریم المؤرّخ 26 ذو الحجّة 1356، فلمحت لی بارقة الأمل فی أفق الوجود طلیعة تحقیق الأمانی التی یتطّلع إلىها العالم الإسلامی.
وإنّی وإن کنت أعلم أنَّ فکرة الوحدة الإسلامیة من الأفکار التی تجول فی عرق کلِّ عراقی، وأنّه لیس هناک أیّ تردّد، بل إنّما هناک نفوس متوثّبة وهمم ماضیة فی تحقیقها وإظهارها إلى الوجود، ولکن لکشف الحقیقة عرضت رأیکم السامی على أعلام علماء الشیعة وأشراف النجف الأشرف، وتداولت مع علماء العاصمة وزعمائها وأشرافها، وکبار رجال الحکومة، ورؤوس أهل الحلّ والعقد فی العراق من إخواننا أهل السنّة والشیعة، وربما قرأتم فی الصحف العراقیة کلماتی التی أقنعتُ بها الجماهیر المحتشدة فی جامع السیّد سلطان علی ببغداد من أعلام علماء أهل السنّة والشیعة، ورجال الحلّ والعقد، فکلُّ أعطاه حقّه من الترحیب، وأهَّله للبرکة، وطلب المبادرة إلى الحرکة. فالعراق بأجمعه خاضع لمفعول هذه الفکرة السامیة فی جوهرها، ولکن هل الأقطار الإسلامیة الأخرى لهم علم بهذا الرأی؟ إذ یجب أن یمثّل فی هذا المجلس جمیع عناصر المسلمین:
وإنّی أعتقد أنَّ الجمعیات الدینیة فی جمیع الأقطار الإسلامیة لا تعارض هذا المشروع، على أنّی أحذّر من العقبات السیاسیة، وما قد تُدلی به الحکومات الاستعماریة من النظریات السیاسیة والعراقیل فی هذا المضمار.
وأمّا رأیی فی هذا الموضوع فإنّی أرى أشیاء تلزم للإعداد. وما ذاک إلا من تغلغلی فی الإصلاح الذی أتوخاه وأصطفیه، وصاحب البیت أدرى بالذی فیه:
الأوّل: أنَّ التمثیل فی المجلس الأعلى یجب أن یکون غیر حکومی; لأنَّ جمهور الشیعة یرون أنَّ کلّ أمر دینی یلزمه أن یُتقرّب به إلى الله تعالى، ویُطلب امتثالاً لأمره تعالى، ولذلک ترى العلماء والأتقیاء یجتنبون الوظائف الحکومیة، والرواتب، لأنَّهم یرون أنَّ ذلک مبعد عن التوفیق الإلهی.
الثانی: أنَّ تعیین بلد الانعقاد ممّا یتریّث فیه; لأنَّ اختیار القطر والبلد لیس بالأمر الهیّن، ولذا یجب نبذ کلّ فکرة عاطفیة، وإنّما یشترط فی بلد الانعقاد أن یکون فی قطر متمتّع بسلطة أهلیة، وبعید عن کلّ نفوذ سیاسی أجنبی. وعلیه فأیَّ قطر من الأقطار العربیة تتمتّع بحریّة محلیة تکون نتیجة التمتّع السیاسی المستقلّ فهو المعیَّن لأن یُعقد فیه المجلس الإسلامی الأعلى.
الثالث: المبادرة إلى تشکیل لجنة تحضیریة لوضع المنهاج والموادّ التی سیبحث عنها المجلس الإسلامی العامّ، وإعلانها على المسلمین کافّة; لکی لا یبقى مجال لخصوم الدین والجامدین والرجعیین وأعوان المستعمرین أن یختلقوا المقاصد غیر الشریفة للمجلس الإسلامی الأعلى، لیصیبوا هدفهم من إثارة نفوس الدهماء علیه، وقتله قبل تکوّنه.
الرابع: الإیعاز إلى الکتّاب والمؤلّفین فی تاریخ الطوائف والمذاهب الإسلامیة ومسائل الاعتقادات أن تکون مقرونة بالمجاملة ورعایة الآداب، وأن یکون الجدل بالتی هی أحسن، وبعبارات غیر جارحة للعواطف، لکی لا تثیر التعصّب الذی یجب ترکه فی مقام الإرشاد والهدایة وتوحید الکلمة. والسلام علیکم وعلى جمیع الإخوان ورحمة الله[25].
عبدالکریم الزنجانی 8/2/1357 النجف الأشرف
محمد تقی القمی (1289 – 1369هـ / 1910 – 1990م)
ولد الشیخ محمد تقی بن أحمد القمی فی مدینة «قم» الإیرانیة وامتاز منذ نعومة أظفاره بالنبوغ وحمل هموم العالم الإسلامی. ولذلک حفظ القرآن فی صغره وتعلّم علوم اللغة العربیة کما تعلّم اللغة الفرنسیة، ودرس العلوم الدینیة.
دافع العمل:
حول دافعه فی إنشاء دار التقریب وذهابه إلى مصر وکیف بدأ عمله قال: أن ثمة ظروفًا تجمعت فی العالم الإسلامی آنذاک جعلت الصراع الطائفی بین أهل السنّة والشیعة على أشدّه. کان الجوّ مفعمًا بین الفریقین بعدم الثقة والتوتر والتخاصم والشبهات، وکان أعداء الإسلام قد نجحوا فی خلق حواجز ضخمة بین المذاهب، یتراشق أصحابها التهم بینهم، دون أن یفکروا فی الجلوس على طاولة واحدة لیسمع کل منهم حدیث الآخر بمعزل عن الطعن والتجریح والتشنّج.
مقتل السید الیزدی:
ثم حدثت حادثة هزّت کل المخلصین، واستحثّت کل المهتمین بمصیر الأمة الإسلامیة. لقد أُعلن نبأ إعدام إیرانی سیّد (من آل البیت) هو سیّد أبو طالب الیزدی فی موسم الحج بأرض الحجاز بتهمة إهانة الکعبة!! وانشدّت الأنظار إلى السعودیة لتستطلع الخبر. فجاء التحقیق مذهلاً مؤلـمًا یعبّر عن جوّ فظیع من انعدام الثقة والشبهة والتهمة بین المسلمین.
تبیّن أنّ الرجل أصیب فی الطواف بحالة غثیان، فأراد الخروج من بین الطائفین، لکنه لم یتمالک نفسه، حرص على أن لا یلوّث أرض المسجد، فجمع لباس إحرامه وألقى قیأه فیه. ثم أسرع للخروج، فاستوقفه شرطی وسأله عمّا یحمله، فلما رأى ما رأى ولم یفهم من السید أبو طالب توضیحاته بالفارسیة، أخذه وسلّمه إلى القضاء. وهناک أیضا لم یفهموا ما یقوله السید، فأفرزت ذهنیات القضاة هناک مایلی: إن هذا الرجل إیرانی، والإیرانیون عادة لا یحجون بیت الله الحرام بل یحجون کربلاء والنجف!! وإنما یأتون إلى بیت الله الحرام بقصد إهانته!! وما یحمله هذا الإیرانی إنما کان یستهدف به تنجیس الکعبة!! ثم حکموا علیه بالإعدام .. وضربوا عنقه!!
هذا نموذج واضح على نجاح الخطة الاستعماریة فی إیجاد فصل نفسی وشعوری واعتقادی بین المسلمین.
هذا الحادث هزّ الشیخ القمی ، کما هزّ الکثیرین من أبناء العالم الإسلامی، لکنه لم یحرّکه فی اتجاه سلبی.. لم یدفعه إلى الانتقام من القَتَلة، بل إلى الانتقام من الجهل والفرقة وکل العوامل التی أدّت إلى هذه الظاهرة وغیرها من الظواهر المؤلمة.
فکّر فی الأمر ملیًا، وقرر أن یتحرّک لکسر حواجز العزلة بین السنّة والشیعة، وکان لابدّ أن یکون هذا التحرک فی مرکز قادر على أن یشعّ بتأثیره على کل العالم الإسلامی. ولیس أفضل لهذا الأمر من الأزهر والقاهرة.
السفر إلى لبنان:
هذا المشروع یحتاج أولاً إلى تعلّم اللغة العربیة، فالشیخ القمی درس العربیة صرفها ونحوها وبلاغتها فی الحوزة العلمیة، ولکنه لا یجید التحدث والتخاطب بها. ذهب بهدف تعلم اللغة العربیة إلى لبنان، وأقام فی قریة لبنانیة یعاشر أدباءها وشیوخها، ویعکف لیل نهار على التحدث باللغة العربیة لمدة 7 أو 8 أشهر.
ومن ذکریاته عن تلک القریة اللبنانیة ما یحمله عن رجل دین مسیحی یحبّه کل أبناء القریة، ما إن یخرج إلى الشارع حتى یجتمع حوله الناس یحیونه ویقبلون یده، سألته عن سرّ شعبیته هذه . قال لی وأشار إلى کنیسة القریة وبجوارها مدرسة: السبب هو هذا. نحن ننشئ إلى جانب کل کنیسة مدرسة. فنربّی فیها أبناء القریة ونرتبط بهم فیها فکریًا وعاطفیًا وروحیًا. یقول الشیخ القمی: عدت إلى نفسی حین سمعت کلمة هذا الشیخ المسیحی، وفهمت سرّ تطور حضارتنا الإسلامیة فی عصورها الذهبیة، حین کان التعلیم لا ینفصل عن المسجد. وهذا ما دعا الشیخ القمی لأن یکتب فیما بعد مقاله فی رسالة الإسلام «لیکن شعارنا: المدرسة بجانب المسجد»([26]) . وفیه یرکز على أهمیة التحام العلم بالإیمان، حتى یثمر عطاء العلم ویثمر عطاء الإیمان.
الرحیل إلى مصر:
ویترک لبنان ویرحل إلى مصر، فیتصل أول ما یتصل بالشیخ محمد المراغی الکبیر، وکان یومذاک شیخ الأزهر الشریف. یبثّ إلىه شکواه، وینفث عنده مافی صدره من هموم، ویصف له ما آلت إلیه حال المسلمین بسبب تفرّقهم وتشتّتهم، ویطرح علیه فکرة التواصل بین المذاهب الإسلامیة، والتعارف بینها. ویتجاوب معه الشیخ المراغی کل التجاوب، ویقترح على الشیخ القمی أن یبدأ عمله من التدریس فی الأزهر، وأن یبدأ من تدریس الفلسفة. یبدأ بالتدریس ویشتغل ردحًا من وقته فی مکتبة الجامعة.
استأجر بیتًا متواضعًا بسیطًا لسکنه ولنشاطه العلمی (أصبح فیما بعد مقرّ دار التقریب فی القاهرة)، وکان یعیش على ما جاء به من مال، وعلى ما یُرسل إلیه من إیران، عیشة قناعة وکفاف. وأمّا ما یحصل علیه من مال مقابل تدریسه وعمله المکتبی فیوزعه على مستخدمی الجامعة.
کان الشیخ المراغی مصیبًا فی اقتراحه التدریس بالأزهر فلقد وفّر للشیخ القمی فرصة الاتصال بفئة کبیرة من العلماء والأدباء والمثقفین الذین أعجبوا بشخصیته العلمیة، وباتزانه وخُلُقه ورجاحة عقله وإخلاصه ومودّته.
بالمناسبة کان الشیخ القمی ذا قامة ممشوقة مهیبة، ووجه مشرق بشّاش ، ومنطق رصین متّزن، وخلق کریم جذّاب، وکان ذلک من عوامل نجاحه فی دعوته.
واصل الشیخ القمی عمله الجامعی ، وعن هذا الطریق أنشأ علاقات واسعة مع الأساتذة والعلماء ، وکانت الجلسات تتوالى فی بیته أو فی أروقة الجامعة، تُطرح فیها هموم المسلمین، ومشکلة الطائفیة، والشبهات المذهبیة، وتدور أحادیث شیقة، نضّجت فکرة التقریب، وزادت من عدد المؤمنین بها.
کان الشیخ المراغی خلال کل هذه المدّة یبذل الجهد لإنجاح مهمة الشیخ القمی. وکان مما فعله أن عرّف الشیخ القمی بطائفة من العلماء الذین یحملون هموم وحدة المسلمین ونبذ التفرقة بینهم، منهم الشیخ مصطفى عبد الرازق الذی أصبح فیما بعد شیخًا للأزهر، والشیخ عبد المجید سلیم، والشیخ محمود شلتوت وکلاهما أیضا تولّیا مشیخة الأزهر فیما بعد، والشیخ محمد محمد المدنی، والشیخ محمد علی علوبه باشا، ثم اختار الشیخ القمی جمعًا آخر فیهم الشیخ حسن البنا والشیخ عبد العزیز عیسى، والشیخ علی المؤید من الیمن والسید الآلوسی نجل صاحب تفسیر روح المعانی. ومن هذا الجمع تشکلت النواة الأولى لجماعة التقریب، وأقامت هذه الجماعة مؤسسة هی «دار التقریب»، واتخذت هذه المؤسسة المبارکة من بیت الشیخ القمی المتواضع مقرًا لأعمالها.
مع الشیخ عبد المجید سلیم:
من الشخصیات التی برزت بین جماعة التقریب الشیخ عبد المجید سلیم. کان رجلاً کبیرًا فی علمه وشخصیته وإخلاصه. قال عنه الشیخ المراغی: لو کان أبو حنیفة حیًا لما استخلف على مدرسته الفقهیة سوى الشیخ عبد المجید سلیم، لإلمامه الکامل بالفقه الحنفی ولدقته وسعة علمه. ولما کان یمتاز به من صفات نبیلة انتخب لمشیخة الأزهر دورتین.
والشیخ عبد المجید سلیم أول من راسل الإمام آقا حسین البروجردی فی قم وهی مراسلة هامة للغایة بین أکبر شخصیتین سنیة وشیعیة آنئذ. وظلت هذه المراسلات تتوالى عن طریق الشیخ القمی أو المسافرین بین مصر وإیران. وکان السید البروجردی یردّ على رسائله بکل إجلال واحترام.
وفی مرّة أرسل السید البروجردی کتاب المبسوط للشیخ الطوسی، وهو دورة کاملة فی فقه الشیعة إلى الشیخ عبد المجید سلیم. أعجب الشیخ بالکتاب أیّما إعجاب، وکان یقول: متى ما أردت أن أشارک فی جلسة استفتاء أراجع کتاب المبسوط، وکان لاطلاعه الواسع على فقه الشیعة أثر فی فتاواه الفقهیة التی تتجلّى فیها روح التقریب.
من ذکریات القمی عن الشیخ عبدالمجید سلیم:
کان لتعرف الشیخ عبد المجید سلیم على فقه الشیعة وفهمه لأصول هذا الفقه وسعة أبعاده وقربه من روح الشریعة أثر کبیر على اتجاه نشاطات الشیخ. فقد نشر فی جوّ الأزهر الفقه المقارن، ثم رأى الجوّ مهیئًا لصدور فتوى جواز التعبّد بفقه الشیعة. وکان ذلک قبل عشر سنوات من صدور فتوى الشیخ شلتوت بهذا الشأن.
هیّأ الشیخ أذهان جماعة التقریب وأفکارهم لهذا الأمر. وتقرر دراسة صیغة الفتوى فی جلسة معیّنة. وقبل أسبوع من تلک الجلسة المقررة وصلت إلى جمیع أعضاء جماعة التقریب طرود بریدیة مبعوثة من عواصم أوربیة مختلفة، أُرسلت على عناوینهم فی محلّ عملهم، وأرسل نظیرها على عنوانهم فی بیوتهم، وهی تحمل ما ینسف فکرة إصدار الفتوى.
الأمر عجیب، والتخطیط دقیق، ومتابعة القوى الشیطانیة لنشاط التقریب حثیث. فی توقیت دقیق تحرکت هذه القوى للوقوف بوجه خطوة هامة من خطوات التقریب.
حضر الأعضاء فی الجلسة المقررة وهم یحملون تلک الطرود، والغضب باد على وجوههم، وجلس الشیخ عبد المجید فی مقدمة المجلس. وإذا بالأعضاء یرفعون صوتهم دفعة واحدة، ویتحدثون بلهجة غاضبة قائلین: أتریدون أن نصدر فتوى فی جواز العمل بفقه الشیعة وهم یعادون الصحابة! ثم فتح کل منهم طرده وأخرج منه کتابًا منسوبًا إلى أحد علماء الشیعة یتحامل فیه على الخلیفتین الأول والثانی. وقالوا: هذه وثیقة تبین طبیعة الشیعة وأفکارهم تجاه الخلفاء فماذا تقولون؟
یقول الشیخ القمی: استولى علیّ الوجوم، فما عدت قادرًا على الکلام فی هذا الجوّ المتشنّج. نظرت إلى الشیخ عبد المجید فرأیته ینظر إلى کل واحد من المتکلمین بهدوء وطمأنینة کأنه یرید أن یستفرغ منهم شحنة غضبهم. وعندما تکلّم الجمیع وساد الجوّ هدوء نسبی، تناول الشیخ سلیم الحدیث وقال باتزان ووقار: هلاّ سألتم أنفسکم من أین جاءت هذه الطرود؟ وما هو هدف مرسلیها؟ ولماذا أرسلوها فی هذا الوقت بالذات؟ ثم استرسل فی الحدیث قائلاً: لو أن الشیعة والسنّة لم یکن بینهما اختلاف لما احتجنا إلى التقریب وإلى جماعة التقریب ودار التقریب ومجلة رسالة الإسلام. لکننا بعد علمنا بوجود الاختلاف نهضنا بهذا المشروع، کی نرکز على المشترکات ونقلّل الاختلافات ونزیل الشبهات. ثم انظروا إلى هذه الأیدی التی فعلت فعلتها بطباعة کتاب یثیر حساسیات أهل السنّة تجاه الشیعة فی أوربا، وأرسلته فی هذا الوقت الحساس إلیکم، أهی حادبة على أهل السنّة؟ أیهمّها مصلحة المسلمین؟
وهّلا سألتم أنفسکم عن صحة نسبة هذا الکتاب إلى مؤلفه؟ ولو قُدّر أن هذه النسبة صحیحة، فهل ماجاء فیه یخرج المسلم من دائرة الإسلام ویفکه من رباط الأخوة الإسلامیة؟! واسترسل یتحدّث بلغة رصینة مستحکمة. هدأ الجوّ، ولکنّ صدور الفتوى تأخر عشر سنوات حین أقدم الشیخ محمود شلتوت على تنفیذ المشروع.
ومن المشاریع التقریبیة التی نهض بها الشیخ عبد المجید سلیم إدخال تفسیر مجمع البیان إلى ساحة العالم الإسلامی. حین اطلع الشیخ على هذا التفسیر وجد فیه بغیته، رآه التفسیر الذی یجمع بین العمق العلمی، والسعة والشمول، والوضوح والمنهجیة، والابتعاد عن التعصب، والجمع بین آراء أهل السنة والشیعة. فکتب إلى دار التقریب رسالة یشید بهذا التفسیر ویستحث الجماعة على طباعته. وکتب فی مقدمته على هذا التفسیر: هو کتاب جلیل الشأن غزیر العلم کثیر الفوائد، حسن الترتیب. لا أحسبنی مبالغًا إذا قلت إنه فی مقدمة کتب التفسیر التی تعدّ مراجع لعلومه وبحوثه.
وهذا الحثّ دفع الشیخ محمود شلتوت أن یطالع هذا التفسیر بـإمعان، فشُغف به حبًا، وولع به ولعًا یتضح من المقدمة التاریخیة التی دوّنها لهذا التفسیر. تقرّر طباعته، وعلى مدى أعوام طبع هذا التفسیر أفضل طبعة تتصدرها رسالة الشیخ سلیم ومقدمة الشیخ شلتوت.
مع الشیخ محمود شلتوت والشیخ شلتوت کان عالـمًا مفسّرًا أدیبًا عاملاً ورث عن أستاذه الشیخ عبدالمجید سلیم إخلاصه وعلمه وروحه التقریبیة. وکان یجلّ أستاذه ویحترمه ویقوم له فی المجلس ویقبل یده.
خصّ کلّ جزء من أجزاء مجلة رسالة الإسلام بحلقة من التفسیر یجمع فیها بین الوضوح والعمق والأصالة والمعاصرة. کان یکتب بروح الأزهر وبلغة العصر . ثم جمعت هذه الحلقات فی کتاب وطبع فیما بعد.
ومن مظاهر الروح التقریبیة لدى الشیخ شلتوت ارتباطه بمراجع الشیعة وهو على رأس مشیخة الأزهر. فقد راسل السید البروجردی فی قم وراسل السید محسن الحکیم فی النجف. وفی عهده بدأ العمل بتنفیذ مشروع شلتوت - القمی، ویقضی بجمع أحادیث السنة والشیعة فی الموضوعات المختلفة، وهو عمل تقریبی هام یوفّر للباحثین سبل التحقیق، ویوضّح ما بین الفریقین من تقارب فی السنّة بعد اتفاقهما الکامل على کتاب اللّه تعالى. کان المشرف على تنفیذ المشروع الشیخ محمد محمد المدنی، وبعد وفاته(رحمه الله) توقّف. وأخیرًا اجتمع عدد من تلامیذ المرحوم الشیخ شلتوت الذین تربّوا تربیة تقریبیة على یدیه، لیواصلوا هذه الأطروحة.
مع الشیخ حسن البنا والتقریب:
وحین یتحدث الشیخ القمی عن ذکریاته مع جماعة التقریب یقف طویلا عند الشیخ حسن البنّا. حین یذکره یسری إلى جسده نوع من النشاط والحیویة فی الکلام کأن نشاط الشیخ البنا ینتقل إلى جسده. لم یکن حسن البنا عالـمًا أزهریًا ولم تکن له علاقات مع شیوخ الأزهر، لکنه کان جبلاً شامخًا فی همومه وتحرکه ونشاطه وتخطیطه وإخلاصه. بهذه الصفات الکبیرة اخترق أوساط الشباب الجامعی وربّى جیلاً تقیًا ورعًا مجاهدًا مثقفًا ثقافة إسلامیة واعیة صحیحة. کان یحمل همّ التقریب بین مذاهب المسلمین انطلاقًا من هدفه الذی کان یعیشه بکل وجوده، وهو عودة الأمة المسلمة إلى عزّتها وکرامتها ومکانتها على الساحة التاریخیة. روحه التقریبیة هذه سرت إلى جماعة «الإخوان المسلمین» التی أسسها ورعاها وأشرف على مسیرتها. وآثاره لاتزال حتى الیوم موجودة بین جماعات الإخوان المسلمین. فهی الجماعة السلفیة الوحیدة التی کانت ترفض معظم فصائلها التعصب الطائفی وتقیم علاقاتها على أساس الإسلام وحده لا المذهب، ولا تعیر أهمیة للخلافات المذهبیة، ونأمل أن لا تزول هذه المواقف بفعل طوارئ الساحة السیاسیة المتلاطمة.
جدیر بالذکر أن الشیخ حسن البنا کان من أوائل جماعة التقریب ومن المهتمین بدفع مسیرة الدار، وکان الحدیث فی الأیام الأولى لتشکیل الجماعة یدور عن اسم للمؤسسة التی یهمّ الشیخ القمی بـإنشائها، هل تحمل اسم الوحدة، أو التعارف، أو التعاضد أو...؟ غیر أن الشیخ حسن البنا اقترح اسم التقریب لأنه أقرب إلى التعبیر عن أهداف الجماعة. وحملت الجماعة والدار اسم التقریب، بناء على اقتراح هذا الشیخ التقی المجاهد.