کان بین المغرب الإسلامی ومکة تبادل ثقافی عریق یرجع إلى الفتح الإسلامی ولکن فی أشکال مختلفة، روحیة ومادیة. وبتقادم العهود أصبحت الرحلات التی دونها المثقفون المغاربة عبارة عن معالم تاریخیة عن هذا التبادل،لأن الحجاج المثقفین کانوا یتفاعلون مع معطیات الثقافة الإسلامیة أخذًا وعطاءًا. ومن أصحاب الرحلات المغاربیة أبو القاسم العیاشی الذی،دوّن نشاطه العلمی وملاحظاته الاجتماعیة برؤیة نقدیة وتحلیلیة فی کتابه ماء الموائد...
کان بین المغرب الإسلامی ومکة تبادل ثقافی عریق یرجع إلى الفتح الإسلامی ولکن فی أشکال مختلفة، روحیة ومادیة. وبتقادم العهود أصبحت الرحلات التی دونها المثقفون المغاربة عبارة عن معالم تاریخیة عن هذا التبادل،لأن الحجاج المثقفین کانوا یتفاعلون مع معطیات الثقافة الإسلامیة أخذًا وعطاءًا. ومن أصحاب الرحلات المغاربیة أبو القاسم العیاشی الذی،دوّن نشاطه العلمی وملاحظاته الاجتماعیة برؤیة نقدیة وتحلیلیة فی کتابه ماء الموائد. ومن تلک الملاحظات ما یتعلق بالمذاهب وبالعادات السیئة لدى بعض الصوفیة وعن المزارات فی مکة وما جاورها کالطائف وجدّة.
التبادل الثقافی بین مکة والمغرب الإسلامی: العیاشی نموذجًا
عندما یرید الغربیون التعبیر عن موقع کثیر الزحام تجتمع فیه مختلف الأجناس والأعراق والألوان البشریة فإنهم یشبهونه بـ(مکة)، أی أنه فی نظرهم أصبح سُرّة العالم ومقصد الناس. وهذا ینطبق تمامًا على موقع مکة المکرمة من العالم بفضل فریضة الحج منذ أقدم العصور. وما بلاد المغرب إلا جزءًا من هذا العالم.
غیر أن أوّل إشعاع انطلق من مکة المکرمة نحو بلاد المغرب ولیس العکس،هو الإسلام نفسه.فقد کانت بلاد المغرب تعیش فی جاهلیة عمیاء حجبت عنها نور الحریة ونور العلم ونور الإیمان. کانت المنطقة فی القرن السابع المیلادی تحت حکم بیزنطی جائر تمیز بحرمان أهلها البربر من ممارسة حقوقهم السیاسیة ومن التمتع بخیرات بلادهم ومن التطلع إلى استعمال طاقاتهم العقلیة لتصحیح عقیدتهم والاستفادة من المعارف الإنسانیة.فکانت بلاد المغرب فی العهد البیزنطی تعیش فی فراغ روحی وفکری لا یملؤه إلامقاومة أهلها أو عزلتهم فی الجبال بعیدًا عن الأنظار. لذلک کانت بلاد المغرب مهیأة للبدء فی التبادل المعرفی مع مکة المکرمة، بعد أن أطلت منها طلائع الفتح الداعیة إلى الله على بصیرة.
إن طبیعة «التبادل» تقتضی أن یکون هناک طرفان یتبادلان التجارب والخبرات فی تقدم المعارف والتکنولوجیا والمهارات الاقتصادیة والثقافیة، وما إلى ذلک. ولکن طبیعة موضوعنا تبدو ذات شق واحد، على الأقل فی المرحلة المبکرة. فالإشعاع الدینی والعطاء الحضاری کان فی أغلب الأحیان یأتی من مکة إلى بلاد المغرب، ولم یکن لهذه البلاد فی المرحلة المبکرة ما تتبادله مع مکة سوى النزر الیسیر، کالهدایا وریع الأوقاف والتحف والبضائع وغیرها من الأشیاء المادیة.أمّا الذخائر الروحیة والأدبیة والعلمیة فمبادلة بلاد المغرب فیها مع مکة کانت ضئیلة فی أوّل الأمر. وسنلاحظ أن الرحلات الحجازیة المغاربیة کثیرة الحدیث عن هذه الذخائر فی مکة ولیس العکس. ولذلک فإن هذه المعارف والتجارب هی التی تجعل الحجاج المغاربة یظهرون نخبة متمیزة فی مجتمعهم بعد الرجوع من الحج سالمین غانمین علمًا ودینًا حتى أن بعضهم کان یمیز نفسه عن الآخرین بألقاب مخصوصة یترضیها وأثواب یرتدیها وسلوک یعرف به بین الناس.
کانت رحلة الحج عند المغاربة فرصة لأداء الفریضة لأن مکة هی مهبط الوحی ومأوى أفئدة المسلمین حیثما کانوا،وکان المغاربة، مثل کل المسلمین یتلون فی بیوتهم ومساجدهم الآیات الحاثة على أداء الرکن الخامس من أرکان الإسلام الذی أحیط بشروط لم تعرفها الأرکان الأخرى، منها القدرة البدنیة والمادیة. فکان أداء الفریضة على الوجه الأکمل یتطلب استعدادًا لا یتوفر لکل الناس فی کل الأوقات. فبعد المسافة وأخطار الطریق تجعل الحاج المغاربی لا یسافر سفرًا عادیًا، بل سفرًا فی الحقیقة وداعیًا. لذلک کانت أوبته من رحلته کأنها عودة غیر متوقعة. فیکون الاستقبال أیضًا استثنائیًا، ویکون تسجیل الرحلة أمرًا مرغوبًا فیه دینیًا واجتماعیًا وعلمیًا. ولعل مشقة السفر هی التی جعلت مشارکة المرأة فی رحلة الحج نادرة عند المغاربة.
من الواضح أننا فی حدیثنا عن التبادل الثقافی إنما نتناول تجربة الحج عند المثقفین (العلماء) أو الفقهاء ولیس عامة الناس. وقد یکون من بین هؤلاء العلماء والفقهاء موظفون سامون فی الدولة، أو طلاب علم.ولذلک کان الحاج الفقیه أو العالم معنیًا، بعد أداء الفریضة، بأخذ العلم على شیوخ مکة والمدینة وتسجیل مشاهداته وانطباعاته ومقارنة ذلک بما یعرفه فی بلاده أو البلدان الأخرى التی مر بها،سیاسیًا وأمنیًا وعلمیًا وعمرانیًا. ولیس کل الذین قصدوا مکة من الفقهاء والعلماء على درجة واحدة من الثقافة والاستیعاب والاهتمام. فابن بطوطة کان عندما بدأ رحلته، یافعًا لم ینل من العلم إلا حظًا یسیرًا. ومع ذلک کانت له ثقافة فقهیة جعلته مرموقًا بین الحجاج المغاربة حتى ولوه القضاء، ربما لأنه لم یکن من بینهم من هو أفضل منه علمًا.
وکان أبو سالم العیاشی فقیها زاهدًا وطالب علم.فکان فی مکة یبحث عن الشیوخ ویستجیزهم،ویطلب الکتب لینسخها،ویربط العلاقات مع علماء الحرمین الشریفین، وکذلک کان الحسین الورثیلاتی الذی حجّ، مثل العیاشی، عدة مرات، وقد خرج من بیئة شاع فیها الزهد ونمت فیها الطرق الصوفیة.فکان أثناء حجه یعظ الناس والحکام على السواء، معتبرًا ذلک قربة إلى الله. کما عقد صلات مع رجال العلم ولا سیما أهل التصوف منهم.أما أحمد بن عمار (ت. بعد 1205هـ) فقد کان أدیبًا وشاعرًا وفقیهًا عمیق الثقافة الدینیة، فأراد أن تکون رحلته موسوعة أدبیة ودینیة تنبض بمشاعره الجیاشة إلى الکعبة الشریفة وإلى منزل الوحی والحرم النبوی. وکان کل من أبی القاسم الزیانی (ت. 1249هـ) ومحد السنوسی (ت. 1318هـ) موظفین فی بلدیهما، الأوّل فی مخزن السلطان بفاس، والثانی فی حکومة البایات فی تونس. وکانت لکلیهما ثقافة سیاسیة واسعة إلى جانب ثقافتهما الدینیة.وإذا کانت روح الجغرافیا والسیاسة قد غلبت على الزیانی فإن روح السیاحة والإصلاح الاجتماعی قد غلبا على السنوسی. فکانت آراؤهما فی مجتمع مکة تعکس اهتمامهما ومستواهما الفکری.
وهناک تباین بین رحلة وأخرى من حیث أهمیة المعلومات المنقولة أو المتبادلة التی تتوفر فیها. وهذه المعلومات تزداد قیمتها بقیمة الملاحظات التی یبدیها صاحب الرحلة. ثم إن الملاحظات نفسها لا تکون ذات قیمة إلا إذا کان صاحبها عمیق الثقافة دقیق الحکم. فما یلفت النظر عند حاج فقیه قد لا یعنی شیئًا عند حاج سیاسی أو أدیب، وهکذا.ونحن نفهم ذلک من رأی ابن خلدون (ت. 808هـ) الذی عقد فصلًا فی (المقدمة) عن الرحلة بصفة عامة.فقد لاحظ أن أفضلها هی تلک التی تجمع بین تلاقح الأفکار وتقادح الآراء، ولا تکتفی بجمع المعلومات وتدوین المشاهدات. ورکز ابن خلدون على الرحلة العلمیة (طلب العلم) فقال: «والسبب فی ذلک أن البشر یأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ینتحلون به من المذاهب والفضائل، تارةً علمًا وتعلیمًا وإلقاءً، وتارةً محاکاةً وتلقینًا بالمباشرة، إلا أن حصول الملکات عن المباشرة والتلقین أشد استحکامًا وأقوى رسوخًا. فعلى قدر کثرة الشیوخ یکون حصول الملکات ورسوخها». وهذا ینطبق فی موضوعنا على الأخذ عن شیوخ مکة سواءً أکانوا من المقیمین أو من الوافدین.
أشرنا إلى أن جاذبیة مکة الدینیة للمغاربة بدأت منذ الفتح الإسلامی.فقد اعتنق هؤلاء الإٍسلام ودخلوا جیوش الفتح، وبادر علماؤهم إلى أداء فریضة الحج وتحصیل الشریعة والأحکام من مصدرها. فکانت تحصل لهم فی مکة أحوال من التأثر، سواء بالحضور الشخصی إلى الحرم والکعبة وأداء المناسک والدخول فی روحانیة غامرة تفرضها رهبة المکان والذکریات والتعالیم، أو بلقائهم أفواجًا من المسلمین جاؤوا من کل حدب وصوب واختلاطهم بهم والتبادل الثقافی معهم. فالحاج المغاربی کان یتعلم بعد أداء الحج، کثیرًا من المعارف والعادات والتقالید من إخوانه فی الدین، فیأخذ علومًا ویتعلم لغات ویتمذهب بمذاهب، ویتبادل کتبًا وإجازات. وکان ذلک منذ وقت مبکر فی تاریخ العلاقات بین مکة وبلاد المغرب الإسلامی، أی قبل الشروع فی تسجیل الرحلات الدینیة التی سبقت، بدون شک، رحلات المشاهدة والسیاحة.وتشیر الأحداث التاریخیة إلى أن لقاء المغاربة بزعماء الحرکات الإسلامیة المعارضة بدأ من مکة (مثلًا : دعاة الفاطمیین).
وقد مرت الرحلات المغاربیة بعهدین،الأول من القرن السابع إلى القرن التاسع الهجری،حین فتح ابن رشید السبتی هذه الطریق، ثم سار آخرون على منواله ومنهم ابن بطوطة. ویعزو بعض الباحثین قلة الرحلات المغاربیة خلال القرنین التاسع والعاشر إلى انشغال المغاربة بالفتن الداخلیة والغزو الخارجی. وربما کان انعدام الأمن وراء ذلک أیضًا، لأن الغربیین أصیبوا بطعنة کبیرة بعد استیلاء المسلمین على القسطنطینیة (سنة 1453هـ)، فأصبح البحر الأبیض غیر آمن للسفر بالنسبة للمسلمین، ثم إن أخطار الطرق البریة بعد تحول التجارة من البحر الأحمر إلى المحیط الهندی والأطلسی،جعلت طریق الحج غیر مأمونة العواقب. وذلک یعنی توقف التبادل الثقافی بین مکة وبلاد المغرب مما أثر سلبًا على المستوى الفکری لدى الجانبین. ومهما کان الأمر فإن القرون التالیة (11، 12، 13) قد عرفت انطلاقة کبیرة فی تدوین الرحلات المغاربیة الحجازیة.
وشارک فی هذه الانطلاقة مثقفو المغرب (المغرب الأقصى) بالخصوص،ویأتی بعدهم الجزائریون ثم التونسیون بدرجات متفاوتة. ولعل أبرز هؤلاء المثقفین العیاشی (القرن11) الذی حج عدة مرات، ثم الغنامی، والإسحاقی، والناصری الدرعی (ت1239هـ)، والزیانی. (وأربعتهم حجوا فی القرن 12هـ) أکثر من مرة کذلک. وکانت معظم الرحلات الجزائریة قد دونت فی القرن الثانی عشر والثالث عشر (ابن مسایب، والورثیلانی، ابن عمار، أبو راس الناصری..).ومن تونس هناک السنوسی (القرن 13) والجودی القیروانی (القرن 14). وأما من موریتانیا فهناک ابن طویر الجنة (القرن 13). وقد حج عدد من المثقفین الجزائریین،مثل عبدالکریم الفکون والمقری. (القرن11) وابن العنابی، والأمیر عبدالقادر. (کلاهما فی القرن ) ولکننا لا نجد لهم رحلات مکتوبة. وفی معظم هذه الرحلات کان تأثیر مکة على بلاد المغرب أکثر من تأثیر بلاد المغرب على مکة.
ومع ذلک فیجب أن ننوه بما کان یقدمه الحجاج المغاربة لمکة فی نطاق التبادل الثقافی ولو کان قلیلًا. فقد کانت کتبهم ترحل معهم إلى مکة أو یحملها حجاج آخرون فی غالب الأحیان أو مجاورون. وقد ذکر العیاشی أنه وجد نسخة من رحلة ابن رشید السبتی فی مکة وأطال فی وصفها کما سنرى. وکان العلماء والفقهاء من الحجاج یحملون معهم بعض مؤلفاتهم ورسائلهم فیهدون منها إلى علماء مکة والوافدین علیها من علماء المسلمین، کما أن المجاورین والمهاجرین کانوا یقومون بالتألیف والتدریس فی الحرم والمدارس المکیة، ومن ثمة کانوا یسهمون فی الحیاة الثقافیة فی عاصمة المسلمین. ومن أبرز العلماء الذین جاوروا وقاموا بالتدریس والتألیف أبو مهدی عیسى الثعالبی الجزائری الذی خصّه العیاشی بحدیث طویل وروی أسانیده المسماة (کنز الرواة). وکان العیاشی یسمی الثعالبی «شیخنا». وکانت للثعالبی مکتبة فی الحرم المکی أتلفها السیل الذی داهم الحرم.
کما یحمل الحجاج المغاربة تجاربهم فی الحیاة إلى مکة فقد کانوا یلاحظون عادات وتقالید أهل مکة من جهة والحجاج الوافدین علیها من جهة أخرى فیجدون بعضها على الأقل غیر منسجمة مع ما اعتادوا علیه فی بلادهم،فینتقدونها على أساس دینی أو أخلاقی، أو باعتبارها ظواهر اجتماعیة ودینیة أقرب إلى البدع منها إلى الدین الصحیح.وهم کما نعرف مالکیة المذهب مما یجعلهم ربما أکثر محافظة من غیرهم من المسائل الشرعیة. فهذا الورثیلانی یذکر أنه دخل على شریف مکة وطلب منه إعادة المنهوب من رکب الحج الذی کان فیه فاستجاب الشریف إلى طلبه. وأبدى السنوسی ملاحظات دقیقة على الحیاة العامة ومنها مناقشته لآراء من عمل بأخبار البرق (التلغراف) وهی أخبار حررها غیر المسلمین کما رد على انتقاد المطوف له حول وضع لباس الإحرام على الکتف، ولکن بطریقة لبقة.
ومن جهة أخرى، انتقد التجیبی تعدد الأئمة فی الحرم المکی ووجود إمام لکل مذهب من المذاهب الأربعة، ومصلى خاص بکل أهل مذهب. وفی مکة التقى أبو رأس الناصری ببعض العلماء الوهابیین ــ دون أن یسمی منهم أحدًا ــ ،وتناظر معهم وانتهى إلى أنهم فی نظره،خارجون عن المذاهب الأربعة فی الفروع وانتقد الزیانی دعوة الأمیر سعود الکبیر وهاجم القصیدة المعروفة بالقصیدة المغربیة جوابًا على الرسالة السعودیة....
ولاحظ العیاشی الفرق فی المستوى الاجتماعی بین أهل مکة وأهل المدینة، فکانت مظاهر التقشف بادیة على أهل مکة ومظاهر الرفاهیة تلوح على أهل المدینة.وتدخل الأمیر عبدالقادر فی مسألة شرط الخدود عند أهل مکة حین تناقش فی ذلک مع الشیخ الأدیب أحم الخضراوی الذی استحسن الشرط بقوله:
رأیت لها شرطًا على الخد قد حوى جمالًا وقد زاد الملاحة بالقـــــــرط
ولکن الأمیر عبدالقادر استقبح هذه العادة فی البیض وإن کان قبلها فی السود، قائلًا:
أقوال لقــــوم لا تفیـــــد نصیحتــــی لدیهـــــــــم ولو أبدیت کل الأدلــة
ألا فـــــاترکوا ورد الخدود وشأنــه فتخدیدکم فی الخد أقبح فعلة
وتأثر التجیبی نفسه بأصوات المجودین للقرآن الکریم فی الحرم مما حرک وجدانه وهز مشاعره، ولاحظ أن هؤلاء القراء من المصریین المشهورین بحسن الصوت وتلاوة القرآن بالتلحین، وقال إن الجمادات کادت تخشع لسماعهم. وکما تحدث التجیبی عن المدرسة المنصوریة القریبة من المسجد الحرام تحدث السنوسی عن المدرسة الخندریسیة الواقعة بسوق اللیل والتی کان من أبرز علمائها العالم الهندی رحمة الله.
ومن أهم مظاهر التبادل التی أسهم بها المغاربة التعریف بعلماء مکة والوافدین علیها. فهم یعمدون إلى ذکر الشیوخ الذین أخذوا عنهم أو التقوا بهم وذکر أسالیبهم والکتب التی درسها أولئک الشیوخ، وهو ما یطلقون علیه اسم البرنامج. کما یذکرون مؤلفات ورسائل هؤلاء الشیوخ، ونصوص إجازاتهم لهم. ومن الجانب الآخر نجد بعض علماء المغرب یمنحون الإجازات الى العلماء المکیین أو النازلین بمکة من علماء المسلمین. ومن ذلک قیام علماء المغرب بشرح متون أو قصائد أو صلوات (أدعیة) لبعض العلماء والمتصوفة الذین تعرفوا علیهم بمکة. ولعل أهم ما نقل الحجاج المغاربة إلى مکة فی الأزمنة المتأخرة هو الطرق الصوفیة، فقد کان المغرب الأقصى بالخصوص معملًا لصناعة هذه الطرق، إذا صح التعبیر، ومنها الشاذلیة والزروقیة والناصریة. وکانوا یجدون أیضًا تربة خصبة فی مکة عندئذ لاستعداد الناس لتقبل هذا النوع من التنظیمات الدینیة الخاصة نظرًا للظروف السیاسیة والاجتماعیة المتشابهة التی کانت علیها الأمة الإسلامیة، مشرقًا ومغربًا.
حمل المغاربة معهم إلى مکة أیضًا أخبارهم وأخبار نظامهم السیاسی والمعاشی، وعلاقاتهم بجیرانهم من الإسبان والبرتغال. وکان لهذا الحدث أهمیة کبیرة بعد تحول الطرق التجاربة وکساد أسواق المشرق الإسلامی واستیلاء الأوروبیین على الهند وما جاورها. ولا شک أنه وقع تلاقح فی الأفکار وتعارف بین الأقطار، ولا سیما بعد سقوط غرناطة ومصیر أهلها الذین انتشروا فی سواحل بلاد المغرب أو بقوا فی الأندلس تحت الاضطهاد الإسبانی، والحروب التی خاضوها دفاعًا عن النفس، واختلاف أقوال الفقهاء فی وجوب هجرتهم من عدمها، وما آل إلیه أمر الحضارة العربیة الإسلامیة بعد سقو غرناطة.
ولا شک أن أبرز المتکلمین فی هذا المجال هو أحمد المقّری صاحب کتاب نفح الطیب الذی حج عدة مرات. ورغم أن ابن خلدون لم یتحدث فی تاریخه طویلًا عن رحلته الى مکة فإننا نتوقع أن یکون من بین ناقلی المعارف والتجارب المغاربیة إلى بعض حجاج بیت الله الحرام لأنه کان قد خبر النظم السیاسیة والإداریة والمعاشیة فی بلاد المغرب والأندلس قبل ذهابه إلى الحج. وقد جاور الأمیر عبدالقادر بالحرم المکی وأطال الاعتکاف والتقى فی أغلب الظن بعدد کبیر من العلماء والأعیان وتحدث إلیهم عن حروبه ومقاومته للفرنسیین طیلة سبعة عشر عامًا. کما انتقد حجاج آخرون وجهة نظر الفرنسیین الذین استصدروا فتوى شرعیة من علماء المذاهب الأربعة فی الحرم المکی تحرم الجهاد على المسلمین الجزائریین ضد الفرنسیین لأنه من باب إلقاء النفس إلى التهلکة المنهی عنه.
وهکذا ترى أن الصلة بین عواصم المغرب الإسلامی ومکة المکرمة لا تکاد تنقطع وأن وسیلة ذلک هم العلماء والمتعلمون والأعیان الذین کانوا یحملون أثناء موسم الحج إنتاجهم الأدبی والدینی وتجاربهم السیاسیة والاجتماعیة وعلاقاتهم بجیرانهم من الأروبیین، ثم یعودون من مکة محملین بمثل ذلک إلى مواطنیهم المتعطشین لأخبار الإسلام والمسلمین وحیاة أهل الشرق من علماء وعامة وحکام. وتلک هی الحکمة من الحج ألیس هو أکبر مؤتمر سنوی إسلامی بل وعالمی؟
ومما یشیر إلى أهمیة مکة عند أهل المغرب الإسلامی تخصیصهم أوقافًا تسمى أوقاف الحرمین الشریفین. ففی کل مدینة مغاربیة کان یوجد صندوق ونظارة خاصة لأوقاف الحرمین، نظرًا لحاجة أهل مکة ومؤسساتها وحجاجها إلى هذه المساعدات الخیریة. وفی کل سنة کانت السلطات تجمع ریع الأوقاف فی صرة خاصة یحملها أمیر رکب الحج إلى مکة. وکانت هذه الوسیلة تمثل مساهمة اقتصادیة واجتماعیة من مسلمی بلاد المغرب للتخفیف عن أهل مکة وفقرائها،وهی فی الواقع مساهمة تعم الجمیع، بمن فیهم شیوخ العلم والطلبة والغرباء ودور الکتب والمدارس والمساجد. فالعلاقة بین هذه الأوقاف ونشر العلم علاقة وطیدة، وهی تقلید قدیم عرفته الثقافة الإسلامیة عبر العصور.وقد کان الأغنیاء والتجار والأمراء ورؤساء العشائر والنساء یشترکون فی دفع نصیبهم الخیری لنظارة أوقاف الحرمین.
وفی هذا النطاق یجب أن ننوه بأن الحجاج المغاربة کانوا یسهمون أیضًا فی رواج السلع والأسواق فی مکة بمشتریاتهم الاستهلاکیة واقتنائهم للبضائع والهدایا التی یحملونها الى أوطانهم. ومن جهة أخرى کان حکام بلاد المغرب الإسلامی یتبادلون الهدایا والرسائل ونحوها مع شریف مکة فی موسم الحج، وتحفل الرحلات والمذکرات والمراسلات الدیبلوماسیة بأخبار هذا التبادل الذی یظهر فیه أحیانًا التباهی بالثروة والوجاهة فی أجلى مظاهرها.
ونود الآن أن نخصص الجزء الباقی من البحث لأحد علماء المغرب الإسلامی وهو أبو سالم العیاشی الذی عاش فی القرن الحادی عشر الهجری. فقد تناول فی رحلته الشیوخ والإجازات وأحوال العلم والعلماء والأفکار والمذاهب والکتب والمکتبات وسجل انطباعه عن الوافدین والمجاورین أو النزلاء فی مکة، وفیهم الهندی،والمغاربی، والشامی، والترکی، والمصری، والیمنی. وقد ضمن العیاشی کل هذه الأخبار والملاحظات رحلته المسماة ماء الموائد.
یعتبر العیاشی نموذجًا حیًا للتبادل الثقافی بین بلاده (المغرب الأقصى) ومکة المکرمة. فقد کان صلة وصل بین مرکزین من مراکز العالم الإسلامی حین نقل أخبار من التقى بهم من العلماء ووصف حالة الکتب، والطرق الصوفیة، والربط، والمدارس، والقراء، والمذاهب وأخبارًا أخرى من المزارات، والعادات والتقالید، والشعر، ونحو ذلک، ومن ثمة کانت مکة بالنسبة للعیاشی مدرسة تعلم فیها ومنها الکثیر، ونحن نعرف أنه أدى فریضة الحج ثلاث مرات فی أوقات متباعدة مما أتاح له التعرف على تطور الأحوال والحکام والأجیال وحتى البیئة. ورغم اهتمام العیاشی بالمتصوفة فإنه کان ینقل أخبارًا أخرى تتعلق بالتجار والفئات الاجتماعیة. ولیس من هدفنا هنا التطویل بذکر تفاصیل أخبار الشیوخ الذین درس علیهم أو العلماء الذین التقى بهم لأن ذلک یخرجنا عن الموضوع الذی نحن بصدده، وهو التبادل الثقافی. فلنکتف ببعض اللقطات عنهم.
أ – الشیوخ:
1 – أبو علی حسن بن علی بن یحیى بن عمر العجیمی المکی الحنفی، وهو من تلامیذ صفی الدین القشاشی نزیل المدینة المنورة الذی یسمیه العیاشی «شیخنا».وقد أذن القشاشی لتلمیذه العجیمی «فی علم الأسرار والدوائر وأسرار الحروف وخواص الأذکار وفی الدعوات وسائر العلوم التی ما یزال المشایخ یتواصون بإخفائها».
ولکن العیاشی أنکر علی العجیمی التفانی فی طلب هذه العلوم. وسمع العجیمی روایة الحدیث من العیاشی واستجازه وأخذ أسانیده وقید عنه تقایید. وکانا یلتقیان فی مکة یومیًا، وأعار العجیمی للعیاشی ما یحتاجه من الکتب ممن «کان بها ضنینًا» لأن العجیمی کان معروفًا فی مکة. وبعد مغادرة العیاشی مکة بقی العجیمی یراسله. وعندما ألف رسالة فی الطرق الصوفیة أرسل منها نسخة إلى العیاشی فی المغرب بطلب منه وأرفقها برسالة ذکر العیاشی نصها فی رحلته بل إن العجیمی استجاز للعیاشی العلماء الوافدین إلى مکة حتى بعد رجوعه إلى بلاده. وتعتبر العلاقة بین العیاشی والعجیمی مثالًا لتبادل العلماء ما لدیهم من علوم ومعارف.
2- السید مصطفى، وقد وصفه العیاشی بأنه رجل ضریر من آل البیت وأنه شیخ مجتهد فی العبادات قلما یسبقه أحد إلى الحرم، وقد زاره العیاشی عدة مرات، وقال إن للناس فی هذا الشیخ عقیدة فی الصلاح والبرکة.
3- سیدی أحمد بن باقشیر الیمنی، وهومن بیوت العلم، وکان عمه عبدالله من کبار علماء المذهب الشافعی بمکة. وترجع شهرة عبدالله إلى علم الداریة ولکن العیاشی لم یلتق به لمرضه. وکان لآل باقشیر رغبة قویة فی أخذ العلم من الوافدین إلى مکة ومنهم العیاشی وأمثاله من المغاربة. وقد سمع أحمد المذکور من العیاشی واستجازه. وکان یبالغ فی التودد إلیه، وقال العیاشی أنه سمع بوفاة الشیخ أحمد بعد رجوعه إلى المغرب سنة 1075هـ.
4- سلیمان بن شمس الدین الحجار، وقد وصفه العیاشی بـ«الولی الصالح» وکان ملازمًا للطواف بالبیت ولا ینقطع عن قراءة القرآن وهو رجل فی نظر العیاشی: «مجهول عند أهل الأرض معروف عند أهل السماء»، وکان قبل تفرغه للعبادة معلمًا للصبیان.
5- أبو زید عبدالرحمن بن أحمد المکناسی، من الوافدین إلى مکة من مکناس وکان یلقب بالزناتی. وقد أطال العیاشی فی ذکر نسب وحیاة هذا الشیخ الذی عرف تقلبات عدیدة، وکان صاحب فضل علیه أثناء حجه، وکان المکناسی یقیم بالطائف ولکنه کان یتردد على مکة وأصبح من أهل المال والجاه. وقد بلغ من سطوته أنه لم یقم من مجلسه إلى أحد أولاد شریف الحجاز ولم یعتذر له. وکان لا یراعی أرباب الدولة، حسب تعبیر العیاشی.
6- أحمد بن تاج الدین المالکی الأنصاری، الذی تولى القضاء فی مکة وراثة عن أبیه، دون إخوته. وهذا القاضی هو الذی کتب للعیاشی قصائد (دیوان) والده فی المدائح النبویة وقصائد أخرى فی مدائح سلطان الحجاز (کذا)، شاکرًا أنعمه وفضله علیه. وقد نقل العیاشی کل هذه القصائد فی رحلته التی ربما تعتبر مصدرها الوحید.
7- أبو مهدی عیسى الثعالبی الجزائری، هاجر من الجزائر بعد ظروف سیاسیة معقدة وسکن المدینة ثم جاور بمکة، وکانت له مکتبة هامة بالحرم المکی، أخذ عنه العیاشی کثیرًا من العلوم ولا سیما علم الحدیث وذکرت أسانیده،وکان یسمیه «شیخنا».ولا نرى داعیًا لتفصیل أخبارهما هنا وإنما نکتفی بالإحالة على ما جاء عن الثعالبی فی رحلة العیاشی.وعلى ما کتبناه نحن عنه. ومن أخبار الثعالبی التی رواها العیاشی أنه کان ملازمًا لأحمد باقشیر الیمنی وسمع منه علومًا کثیرة.
8- علی بن الجمال، الذی کان من فقهاء الشافعیة البارزین بمکة، ومدرسًا فی الحرم. ورغم أن العیاشی قد أدرکه فی بعض حجاته فإنه لم یتلق به.
9- عبدالعزیز بن حسن بن عیسیى التواتی، التقى به العیاشی فی الطائف وقال عنه إنه شیخ القراء بمسجدها الکبیبر ووصفه بأنه الشیخ الذی «لا یشارکه فی تحقیق فن القراءة بأرض الحجاز غیره، ولا یجهل عند الخاص والعام من أهل تلک الدیار أمره».وکان التواتی هذا من تیجورارن التی عدها العیاشی من المغرب، ومتزوجًا من امرأة طائفیة، وکان یحج کل عام، وقد أخذ عنه العیاشی الحدیث المسلسل وأجازه.
10- عبد العزیز الزمزمی، من أهل مکة وکان قد ناهز الثمانین سنة عندما حج العیاشی للمرة ألوى عام 1065 هـ فلم یلقه، أما فی الحجة الأخیرة فوجده قد مات، ولکنه لقی ابنه عبدالسلام، وتنسب إلى عائلة الزمزمی کرامات سمع عنها العیاشی بمکة.
وهناک غیر هؤلاء من الرجال الذین لقیهم العیاشی ونقل علومهم وأخبارهم إلى المغرب، کما نقل بعض کتبهم وإجازاتهم، وظل یتراسل مع بعضهم بعد رجوعه.
ب – المکتبات:
وجد العیاشی مکتبات نقل أخبارها فی رحلته، بل شارک بنفسه فی حرکة التألیف والإفادة وهو بمکة. یقول عن بعض الکتب التی رآها فی مکة: إن منها رحلة ابن رشید السبتی التی رأى منها عدة أجزاء عند شیخه الثعالبی، وکانت النسخة فی وقف المغاربة المعروف برباط الموفق. ویبدو أن هذا الرباط کان یحتوی على مکتبة هامة. ولاحظ العیاشی أن على النسخة خط ابن رشید نفسه مما یدل على أنها النسخة الأصلیة، کما أن علیها خط تلمیذه عبدالمهیمن الحضرمی الذی کانت فی ملکه. وقد وصف العیاشی رحلة ابن رشید وفوائدها العلمیة وصفًا مطولًا بلغ عدة صفحات. ولا نرى داعیًا لذکر ذلک هنا.
کما ذکر العیاشی مؤلفًا آخر فی مدح الرسول(ص) عنوانه منتهى السؤل من مدح الرسول وهو فی مجموع من القالب الکبیر، یؤرخ للسیرة النبویة، ومؤلفه هو محمد بن أبی القاسم بن أحمد بن عبدالرحمن الأنصاری، وقد رأى منه العیاشی المجلس التاسع، وفی آخره تاریخ إکماله وهو سنة 673هـ .
ومن جملة ما احتواه المجموع المذکور، المعلم الرابع من کتاب الدرة السنیة فی المعالم السنیة، وهو أیضًا فی السیرة النبویة، ثم کتاب (الأعلام المحمدیة) للقاضی أبی عبدالله بن عیسى بن محمد بن أصبغ الأزدی، ومن جملة ما فی المجموع المذکور کتاب اللآلی المجموعة وفی وصف نعل الرسول(ص) ،الذی جمعه عبدالله بن محمد بن هارون الطائی القرطبی، وبهذه المناسبة لاحظ العیاشی أن أحمد المقری صاحب کتاب فتح المتعال فی مدح النعال لم یطلع على کتاب الآلی.
إضافة إلى ذلک اطلع العیاشی على کتاب تاریخ الإسلام للحافظ الذهبی، فی عشرة أجزاء ضخام، وطبقات صوفیة للمناوی.وقد نوّه العیاشی بالکتاب الأخیر لأن صاحبه ترجم فیه لأحمد زروق البرنوسی وأبی الحسن الشاذلی وکلاهما من متصوفة المغرب. ومنها کتاب القوانین لابن أبی الربیع فی النحو. ولا شک أن العیاشی قد نقل إلى المغرب حصادًا هامًا من مکتبات مکة وعلمائها.
وقد وصف العیاشی بأسف ما حدث لمکتبة شیخه الثعالبی جراء السیل الجارف الذی ألم بمکة فی حجته الأخیرة. فقال إن مما أتلفه السیل خزانة کتب بالمسجد الحرام تبلغ نفائسها ثمانین سفرًا. وکان الشیخ الثعالبی یأوی إلیها قبل زواجه. فلما سافر الثعالبی إلى المدینة ترک علیها صاحبًا لها من إفریقیة (تونس؟).ولماذ حلّ السیل غفل هذا الرجل عن إبعاد الکتب ظنًا منه أن السیل لن یبلغ ما بلغ من العنف. ولکن الماء أتى على الکتب، فأمر الثعالبی بحفر حفرة ودفنها فیها متأسفًا على ضیاعها.
ج – الرباطات:
من الرباطات التی ذکرها العیاشی رباط الموفق أو رباط المغاربة الواقع عند باب إبراهیم، ورباط السلطان قایتبای.والرباط الأول هو الذی نزل العیاشی قریبًا منه ولم ینزل فیه رغم أنه باسم المغاربة.ثم نزل بدار تقع وراء سوق الشامی قرب دار الندوة. وأما رباط قایتبای المشرف على الصفا، فقد قال عنه إنه «ملیح واسع فیه بیوت کثیرة جیدةُ، جامعة لمرافق السکنی، فی کل بیت منه خابیة للماء،ومکان للخلاء والوضوء».ولکن لماذا لم ینزل فی هذا الرباط وظل یتردد بین بیت مؤقت أعطاه له شیخه الثعالبی، ومن بیت آخر أعطاه له الشیخ محمد الغدامسی. ویبدو أن العیاشی لم یرتح للبیت الأخیر لأنه قال عنه: «ماء ولا کصداء.
د – التصوف:
کان العیاشی متأثرًا بأحوال العصر، کما قلنا، بالطرق الصوفیة وأهلها. فکان یصف أذواق بعض القوم وسلوکهم ویروی أخبارهم الخارقة للعادة، وکراماتهم، وما یردده الناس عنهم، وینقل من مؤلفاتهم.ولا نرید التوسع فی ذلک الآن، ولکننا نشیر إلى أنه ربما حمل من تلک الأخبار الشیء الکثیر إلى المغرب لأن بعض أصحاب الطرق کانوا یأتون إلى مکة وینشرون أفکارهم بین الحجاج. ومن جملتهم الشیخ العجیمی الذی سبق ذکره، فقد ألف رسالة فی الطرق الصوفیة یقول العیاشی عن صاحبها «إنه استوعب فیه طرق أئمتنا الصوفیة الموجودة فی هذه الأزمنة». وقد مدح العیاشی هذه الرسالة وألح على العجیمی أن یرسل إلیه نسخة منها واستجازه فیها، فبعث إلیه العجمیی النسخة ومعها کتاب أورد العیاشی نصه فی رحلته.وقد اشتملت (الرسالة) على أربعین طریقة، ذکر العیاشی أسماءها کلها فی رحلته، فمنها المشهور کالشاذلیة والخلوتیة والسهروردیة والوفائیة والقادریة والرفاعیة والنقشبندیة، ومها غیر المشهور کالعشقیة والسهلیة والمشارعیة والخفیفیة. ونعتقد أن بعض المغاربة المولعین بالطرق الصوفیة قد وجدوا فیما نقله العیاشی معلومات هامة ومداخل لطرق غیر معروفة لدیهم.ومما یُلفت النظر فی مجال التبادل طلب العیاشی من العجیمی التأکید على الشیخ الملا إبراهیم، نزیل المدینة، أن یشرح القواعد الکبرى التی أرسلها العیاشی إلیه. والملاحظ هنا أن المراسلات قد جرت بعد رجوع العیاشی إلى بلاده.
هـ ــ المذاهب:
تحدث العیاشی کذلک عن نازلة (مسألة) فقهیة حدثت بینما کان فی مکة، فألف فیها (رسالة) أبدى فیها رأیه فی ترجیح رأی الإمام الحنفی على رأی غیره. وقد سمى العیاشی رسالته (رفع الحجر عند الاقتداء بإمام الحجر). وخلاصة هذه النازلة أن إمام الحنفیة صلى بالناس فی الحجر، وصلى من ورائه أغلب الناس على عاداتهم. فتحدث المالکیة عن صحة هذه الصلاة. ویبدو أن هذا الحدیث قد اتسع مما دعا العیاشی، وهو مالکی إلى ترجیح رأی الإمام الحنفی. وقد جاء فی رسالته،بعد الدیباجة: «أما بعد، فهذه رسالة غریبة الوضع،عظیمة النفع،یحتاج إلیها أهل مکة البررة الکرام، ویرغب عنها من لم یکن أهله حاضری المسجد الحرام،سمیتها ، رفع الحجر...» . فقد مال العیاشی فیها إلى جواز الصلاة المذکورة وفضّل الاقتداء بإمام الحنفیة. وقد أورد نص هذه الرسالة فی الرحلة.
بالنسبة لأداء العمرة على الغیر خالف العیاشی أیضًا المذاهب القائلة بعدم تکرار العمرة وأدائها على الآخرین کالوالدین والإخوان والأصحاب والمشائخ. وقد أدى العیاشی مناسک العمرة عدة مرات، ونواها على الوالدین والأقربین، مخالفًا فی ذلک من یقول بکراهیة تکرارها فی السنة الواحدة، متعللًا بأن ذلک إنما یکره للمقیم، أما المسافر فعلیه الاستکثار منها لأنها، کما یقول، من أفعال الخیر. وانتقد العیاشی أیضًا المبالغة فی إنشاء مقامات الأئمة الأربعة، حیث یوجد فی کل مکان إمام یصلی بصلاته جماعة من أهل مذهبه، ولهم مسمع، وبذلک تکثر الأصوات وتحدث الجلبة. ولاحظ أیضًا أن أکثر الناس ضجیجًا هم الحنفیة. وأن لکل مذهب تاریخًا للختم، فالشافعیة یختمون یوم 21 رمضان، والمالکیة یوم 25 منه، والحنفیة یوم 27.ولم یذکر العیاشی یومًا لختم الحنابلة. وفی کل لیلة ختم یحتفل أهل کل مذهب بنشر الطیب وتکثیر المصابیح والشموع، وفیها یخلع السلطان (الشریف؟) خلعًا على کل إمام مذهب.
ویشیر العیاشی إلى وجود خطیب واحد یوم عید الفطر، وقد توجه هو إلى المصلى مبکرًا ولکن الخطیب لم یأت إلا بعد أن طلعت الشمس وبدأت الحرارة، وألقى الخطیب خطبة بلیغة فی نظره ولکنها طویلة. وعندما جاء لفظ السلطان (العثمانی؟) على لسان الخطیب، تقدم منه ممثلو السلطان وخلعوا علیه الخلعة، وهو یخطب،وبعد ذلک مباشرة انصرف الناس عن الخطیب دون انتظار الانتهاء من الخطبة لأن حضور الناس کان لمشاهدة الخلعة، وهی عادة مذمومة فی نظر العیاشی.
و-مسائل أخرى:
أورد العیاشی عددًا هامًا من الإجازات التی حصل علیها من شیوخه، لأن من أهداف الرحلة طلب العلم من مصدره مباشرة، على حد قول ابن خلدون. ومنها الإجازات التی أجاز بها هو بعض علماء مکة،وکذلک بعض الرسائل (المکاتیب) التی صدرت منه أو وردت علیه.وهذه أمثلة حیة للتبادل الثقافی الذی نحن بصدده. وهناک خبر یتعلق بالمغاربة فی مکة أورده العیاشی بنوع من العطف.فقال إن القراء کانوا یجتمعون أثناء شهر رمضان حول المصابیح المتناثرة فی صحن المسجد الحرام، على اتساعه، وعند کل مصباح یجلس القراء المغاربة وغیرهم یتلون القرآن الکریم،فإذا کان الاحتفال بالختم یعطى کل واحد من القراء ممن یقرأ عنده الکسوة والدراهم، على قدر الحال والمروءة. وبذلک ینتفع فقراء المغاربة المجاورین بالحرم، لا سیما من کان منهم حسن الصوت.ومن هؤلاء من کان یقرأ فی عدة أماکن ویأخذ من کل واحد ما تم الاتفاق علیه. وبذلک تکون قراءة القرآن فی رمضان موردًا للزرق للمجاورین المغاربة الذین اشتهروا بحفظ القرآن عن ظهر قلب.
وللعیاشی حدیث طویل عن المزارات فی مکة وما قاربها کالطائف وجدة، وهو الحدیث الذی ینتظره ویتشوق إلیه مواطنوه فی العادة. وله حدیث آخر عن عادة کسوة الکعبة ودخول البیت، وما أحدثه السیل الجارف من دمار، ثم ما نتج عن هذا السیل من خصوبة الأرض حتى أن الأسواق ازدهرت والأسعار انخفضت والمیاه غزرت وعذبت، وحلا ماء زمزم وارتفع عن مستواه، وأصبحت الأرض ندیة وخفت شدة الحرارة، کما تعرض العیاشی إلى عادة أهل مکة فی الاحتفال بالموالد.
ونختم هذا البحث بالتأکید على أنه کان بین المغرب الإسلامی ومکة تبادل ثقافی عریق یرجع إلى الفتح الإسلامی ولکن فی أشکال مختلفة،روحیة ومادیة. وبتقادم العهود أصبحت الرحلات التی دونها المثقفون المغاربة عبارة عن معالم تاریخیة عن هذا التبادل، لأن الحجاج المثقفین کانوا یتفاعلون مع معطیات الثقافة الإسلامیة أخذًا وعطاءً. وکل ذلک بفضل رکن الحج وأداء مناسکه فی عاصمة العالم الإسلامی.
بعض المصادر والمراجع:
1 – ابن عمار،أحمد، نحلة اللیبب فی أخبار الرحلة إلى الحبیب، نبذة منها حققها ابن شنب، ط. الجزائر، 1903.
2- أبو راس الناصری، محمد،فتح الإله ومنّته، تحقیق محمد عبدالکریم، الجزائر، 1982؟
3- ابن عبدالله، عبدالعزیز، تاریخ الجزئرة العربیة ج 2. ط. جامعة الریاض، 1979م،ص 349 – 356.
4- التجیبی، أبو القاسم بن یوسف السبتی، مستفاد الرحلة والاغتراب، ط. تونس، 1975.
5- الجودی، محمد التمیمی القیروانی، رحلة حجازیة مخلصة فی مجلة العرب، ج 3 – 4 سنة 16. ج 9 – 10 سنة 16.ج 3 – 4 .سنة 17.
7- الزیانی،أبو القاسم بن أحمد، الترجمانة الکبرى، تحقیق عبدالکریم الفیلالی، ط.المغرب، 1967.
8- سعد الله، أبو القاسم، تاریخ الجزائر الثقافی، 9 أجزاء، ط. بیروت، 1998.
9- سعد الله،أبو القاسم، تجارب فی الأدب والرحلة، ط.الجزائر 1983.
10- سعد الله، أبو القاسم، الرحلات الجزائریة الحجازیة خلال العهد العثمانی، فی کتاب مصادر تاریخ الجزائر العربیة، ج 2، ط.جامعة الریاض، 1399هـ /1979م،ص 335 – 347.
11- السنوسی، محمد الرحلة الحجازیة، 3 أجزاء، تحقیق علی الشنوفی،ط. تونس، 1398/ 1978.
12- العیاشی، أبو سالم عبدالله بن محمد، ماء الموائد (الرحلة العیاشیة)،ط فاس، 1316/ 1898.
13- الفهری،محمد الفاسی، الرحالة المغاربة وآثارهم، فی مجلة دعوة الحق، سنة 2، الأعداد 2، 3، 4.