هذه الدراسة تتناول الذات الحضاریة الأفریقیة فی إطار الإسلام من خلال ثلاثة عناصر: التاریخ، المؤثرات الخارجیة، وقضایا النظام الدولی الجدید، وتأتی صعوبة الدراسة فی هذا الحقل من تحدید نماذج الدراسة: هل الحدیث عن مجتمعات إسلامیة أو جالیات إسلامیة أو ربما أقلیات إسلامیة، إذ لا تتوفر الإحصاءات الدقیقة...
هذه الدراسة تتناول الذات الحضاریة الأفریقیة فی إطار الإسلام من خلال ثلاثة عناصر: التاریخ، المؤثرات الخارجیة، وقضایا النظام الدولی الجدید، وتأتی صعوبة الدراسة فی هذا الحقل من تحدید نماذج الدراسة: هل الحدیث عن مجتمعات إسلامیة أو جالیات إسلامیة أو ربما أقلیات إسلامیة، إذ لا تتوفر الإحصاءات الدقیقة.
تناول القسم الأول من البحث عوامل وتحدیات الاستعمار، وکانت فیه وقفات عند عوامل انتشار الإسلام فی أفریقیا، وخریطة انتشار الإسلام وظهور الممالک الإسلامیة، واشکالیات الإرث الاستعماری، وتتناول الحلقة الثانیة من البحث مشکلات الدولة والدعوة فی مرحلة الاستقلال، وتحدیات الدولة القومیة والدعوة الإسلامیة.
المطلب الثانی: مشکلات الدولة والدعوة فی مرحلة الاستقلال
أ ـ مشکلات البحث فی واقع المسلمین:
تمثل مسألة تحدید نطاق انتشار الإسلام وتوزیع المسلمین فی أفریقیا واحدة من أعقد المسائل وأکثرها حساسیة فی کثیر من الأحیان، وذلک انطلاقًا من أن الاستناد إلى المعیار العددی وتعددات السکان تواجه مشکلات تتمثل فی عدم دقة الإحصاءات السکانیة فی معظم الأحیان، وعدم توافرها فی بعض البلدان الأفریقیة، أو عدم أخذ متغیر الدین فی الاعتبار عند إجراء التعداد، اتساقًا مع العلمانیة التی أخذت بها کثیر من النظم السیاسیة الأفریقیة عند الاستقلال کأداة لتجنب حساسیات البعد الدینی وما قد یحدثه من توترات على نحو ما تشیر خبرة نیجیریا([1]).
وقد أسفرت العوامل سالفة الذکر متضافرة مع الخبرة الاستعماریة وما شهدته من میل القوى الاستعماریة إلى التقلیل من حجم وعدد المسلمین فی المناطق الخاضعة. عن تضارب الأرقام والإحصاءات فیما یتصل بتعداد المسلمین وتوزیعهم فی معظم الدول الأفریقیة ...
ویرجع ذلک التفاوت فی التقدیرات فی جانب منه إلى الفقر سالف الذکر فی الإحصاءات الحیویة لدى کثیر من دول القارة، وتباین المصادر الأکادیمیة فی توجهاتها وأدواتها فی حساب أتباع المعتقدات المختلفة([2]).
وفی ضوء ما سبق یصبح من الصعوبة بمکان الاعتماد على المعیار العددی فی بیان الدول الإسلامیة، والذی یذهب أنصاره إلى اعتبار الدول التی یزید تعداد سکانها عن 50% دولاً إسلامیة، والتی یقل تعداد المسلمین فیها عن 50% دولاً غیر إسلامیة، وفق المعاییر الخاصة ببیان هویة الدولة .إلا أن تطبیق ذلک المعیار یؤدی إلى وجود نسبة ضئیلة من الدول الأفریقیة التی تدخل فی نطاق ذلک المعیار، وتکاد تنحصر فی مجموعة الدول العربیة الأفریقیة التی أعلنت دستوریًا عن إسلامیتها على اختلاف بینها فیما یتصل بدوافع ذلک الإعلان ومداه وتوقیته([3])، ومن تلک البلدان التی تندرج فی هذا الإطار مصر، لیبیا، تونس، الجزائر، المغرب، السودان، موریتانیا، الصومال، جزر القمر...
والجامع المشترک بین هذه الدول ــ باستثناء السودان ــ أن نسبة المسلمین بها تصل إلى أکثر من 90% من السکان([4])،الأمر الذی یفسر عدم تصاعد حدة الصراع حول ذلک التوجه الدستوری على نحو ما شهدت دول أخرى کالسودان ونیجیریا.
وبالنظر إلى قصور المعیار الدستوری عن شمول وبیان الدول الإسلامیة بالقارة فقد عزف الباحثون عن استخدامه کمعیار أساسی، واعتباره معیارًا مساعدًا إلى جانب أحد المعیارین الآخرین وهما عدد المسلمین، والانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامی (منظمة التعاون الإسلامی) الذی یمثل المعیار الثالث فی بیان الانتشار الاسلامی فی القارة.
وعلى الرغم من وضوح وانضباط معیار الانضمام الى منظمة المؤتمر الإسلامی، فإنه لا یخلو بدوره من مشکلاته الخاصة التی من أهمها عدم شموله لنطاق انتشار الإسلام، واستناده إلى إرادات النظم والحکومات ورغبتها فی الانضمام إلى المنظمة بصرف النظر عن حجم انتشار الإسلام وعدد المسلمین، وأوضاعهم بالدولة العضو، الأمر الذی یدلل علیه انضمام دولة مثل موزمبیق الى المنظمة وعدم انضمام دول مثل إریتیریا، إثیوبیا، تنزانیا على الرغم من أن نسبة المسلمین فی کل من الدول الثلاث على حدة تفوق نسبة المسلمین فی موزمبیق على أفضل التقدیرات.
وذهب نفر من الباحثین إلى أن التعرف على عدد المسلمین ونسبتهم داخل کل دولة یظل أفضل المعاییر عند دراسة أوضاع المسلمین وواقعهم على أن یتم الترکیز على طبیعة ثقل وفاعلیة المسلمین داخل الدول التی یوجدون فیها، وطبیعة علاقتهم بالنظم الحاکمة ومؤسساتها على الأصعدة السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة. وانعکاسات ذلک کله على واقع المسلمین وفاعلیتهم فی مجتمعاتهم،وفی هذا الصدد یمکن التمییز بین نماذج ثلاثة عامة بشأن الدول الأفریقیة([5]):
النموذج الأول: ویتمثل فی وجود أغلبیة مسلمة تعیش فی ظل دولة إسلامیة تعلن ــ ولو ظاهریًا ــ أنها تستمد وجودها وشرعیتها من الإسلام.
وتقدم الدول الأفریقیة العربیة أمثله واضحة على هذا النموذج، وإن اختلفت خصائص وغایات کل دولة وتطبیقاتها للنموذج فی هذا الصدد باختلاف المیراث التاریخی والواقع الاقتصادی الاجتماعی للدولة. وإن اتفقت جمیعها ــ باستثناءات طفیفة ولفترات محدودة ــ على حظر العمل السیاسی الإسلامی، مع تضییق فضاء العمل الاجتماعی والاقتصادی أمام نشطاء الحرکات الإسلامیة.
النموذج الثانی: وفیه یکون المسلمون أغلبیة من حیث العدد، إلا أن النخبة الحاکمة تنص فی دستور البلاد على علمانیة الدولة، بمعنى إعلان النظام السیاسی حیاده تجاه الظاهرة الدینیة، الأمر الذی یعد فی جانب منه أحد مواریث الاستعمار وترتیبات القوى الاستعماریة بشأن استقلال الدول الأفریقیة، حیث حرصت القوى الغربیة على تسلیم السلطة للقوى الوطنیة العلمانیة والنخب السیاسیة الموالیة، على الرغم من الدور الجهادی والنضالی للعدید من القوى الإسلامیة فی العدید من حرکات التحریر على نحو ما تشهد به خبرة دول ساحل الصحراء (تشاد ــ النیجر ــ مالی...) وکذلک السنغال وغینیا، وإریتریا.
النموذج الثالث: ویتمثل فی وجود المسلمین کأقلیة، على تفاوت فی ثقل وفاعلیة تلک الأقلیات الإسلامیة حجمًا وکیفًا على نحو ما تشهد خبرة معظم الدول الأفریقیة غیر الإسلامیة بالمعیار العددی، وفی هذا الصدد تمثل خبرة المسلمین فی کل من جنوب أفریقیا وبوتسوانا حیث أدى الثقل الاقتصادی للأقلیة الإسلامیة فی الدولتین متضافرًا مع الترکز الإقلیمی لها إلى فاعلیة سیاسیة للمسلمین تمثلت فی تولی البعض منهم مناصب سیاسیة محلیة. وعلى المستوى الوطنی بنسبة تزید عن نسبة المسلمین فی المجتمع، وهو الأمر الذی مثل إنجازًا للأقلیة الإسلامیة فی هاتین الدولتین، وطرح تحدیًا فیما یتصل بطبیعة علاقة المسلمین بغیرهم من الجماعات الأخرى بالمجتمع على نحو ما سیرد البیان([6]). ومن الأمثلة الدالة فی مقام الحدیث عن الأقلیات الإسلامیة الأقلیة الإسلامیة فی رواندا التی استطاعت أن تنأى بنفسها کطرف محاید عن الصراع الإثنى بین جماعتى الهوتو والتوتسی فی البلاد، وذلک بفضل عدم تورط مسلمی رواندا فی أعمال القتل التی شهدتها البلاد، الأمر الذی جعل المناطق الإسلامیة بالبلاد مناطق آمنه نسبیًا مقارنة بغیرها من أقلیم البلاد.
ب ــ المشکلات الناجمة عن مواریث الاستعمار
أسفرت الحقبة الاستعماریة عن مجموعة من المشکلات الهیکلیة للدول الأفریقیة بصفة عامة، والإسلامیة منها بصفة خاصة، ویمکن تلخیص أهم مظاهر تلک المشکلات فی:
على العکس من سیاسات المرحلة الاستعماریة التی شهدت بعض محاولات ضم عدد من الوحدات الأفریقیة فی صورة اتحادات أکبر تابعة للدولة الاستعماریة،شهدت مرحلة التحریر والاستقلال العدید من عملیات التجزئة والتفتیت، کان للمناطق الإسلامیة النصیب الأکبر من عملیة التجزئة.
وتمثل الإمبراطوریة الفرنسیة فی غرب أفریقیا النموذج الواضح لعملیة التفتیت والتجزئة،حیث أسفر تحلل هذا الجزء من الإمبراطوریة عن قیام 13 دولة أفریقیة هی: السنغال ــ موریتانیا ــ غینیا ــ السودان الفرنسی (مالی حالیًا) ــ ساحل العاج ــ فولتا العلیا (بورکینافاسو حالیًا) ــ داهومی (بنین حالیًا) ــ النجیر. والتی کانت فی مجموعها تمثل ما کان یعرف بأفریقیا الغربیة، مضافًا إلیها الدول الأربع تشاد ــ الکنغو برازفیل ــ الجابون ــ أو بنجى شاری (أفریقیا الوسطى حالیًا)،التی کانت تکون ما یعرف بأفریقیا الفرنسیة الاستوائیة، فضلاً عن استقلال الجزء الذی اختصت به فرنسا من مستعمرة توجولاند الألمانیة، تحت مسمى دولة توجو([8]).
ویمکن القول: إنه لیس هناک رقعة مماثلة فی المساحة بها هذا العدد الکبیر من الوحدات السیاسیة التی تفتقر فی معظمها إلى مقومات الدولة، سواء من حیث المساحة أو الکثافة السکانیة والموارد([9]). وإن کانت تجدر الإشارة إلى أن عددًا مماثلاً من الدول یکاد یتقاسم کل من منطقة حوض النیل (مصر ــ السودان ــ رواندا ــ بوروندی ــ أوغندا ــ إثوبیا ــ اریتریا ــ الکنغو الدیموقراطیة ــ کینیا ــ تنزانیا).
وکذا حوض نهر النیجر (الکامیرون ــ نیجیریاــ بنین ــ توجو ــ بورکینافاسو ــ غنا ــ ساحل العاج ــ لیبیریا ــ سیرالیون ــ غینیا ــ غینیا بیساو ــ جامبیا). ولقد جاءت حدود معظم الدول الأفریقیة الإسلامیة عند الاستقلال بعیدة عن الاتساق اللازم للوفاء بمقتضیات الدول الاستراتیجیة على الأصعدة المختلفة (اقتصادیًا ــ اجتماعیًا ــ أمنیًا...).
فبالنظر إلى الخریطة یتضح أن معظم الدول الأفریقیة الإسلامیة فی الجزء الشرقی والجنوبی من القارة تمیل إلى أن تأخذ محورًا طولیًا، وهو ما یتضح فی دول مثل السودان، الصومال، أوغندا، موزمبیق، بینما تمیل أغلب الوحدات فی النصف الشمالی إلى الاستعراض کما هو الملاحظ فی لیبیا ــ النجیر ــ أفریقیا الوسطى ــ مالی ــ بورکینافاسو ــ غینیا، وعلى جانب آخر توجد دول عبارة عن شرائح متعامدة على الساحل من ذلک بنین وتوجو وغانا.
ولعله مما یوضح ظاهرة عدم الاتساق الجغرافی للدول الأفریقیة ومثالبها أن دولة مالی یتقرب شکلها من «رباط العنق» الأمر الذی یجعلها تختنق فی الوسط على نحو یکاد یترک على الجانبین کتلتین شبه منفصلتین یسهل ــ نظریًا ــ فصلهما عن بعضهما البعض. وبالمثل تقدم الصومال مثالاً آخر، حیث تتخذ حدودها شکل رقم 7 فهی مفرطة الطول شدیدة الضیق، الأمر الذی یضعف التماسک الداخلی ویعطی میزة استراتیجیة للعدو الخارجی لا سیما فی ظل تعمق مثلث هرر والأوجادین الواقع تحت سیطرة إثیوبیا فی قلب الصومال کأسفین یسهل من خلاله شطر الصومال، کما أن دولة موزمبیق هی الأخرى یمکن القول إن لها طولاً وضیقة العرض على نحو یمثل تکرارًا لعنصر الضعف سالف الذکر عن إمکانیة شطرها من جانب دول الجوار([10]) وتقدم حدود السنغال ــ جامبیا نموذجًا آخر لمظاهر عدم الاتساق الحدودی التی ورثتها الدول الأفریقیة عن الاستعمار، حیث تمتد جامبیا من الشرق إلى الغرب حول الجزء الصالح للملاحة من نهر جامبیا لمسافة 300 میل على شکل أصبع ضیق لا یزید اتساعه من الشمال إلى الجنوب عن سبعة أمیال بمساحة إجمالیة أربعة آلاف میل مربع فقط للدولة کلها التی تقع فی قلب جمهوریة السنغال وتشطرها إلى شطرین شمالی وجنوبی([11]).
تعتبر تلک الظاهرة أحد الملامح الأساسیة الممیزة لقارة أفریقیا التی تستأثر بنحو 15 دولة حبیسة أی ما یزید عن ربع عدد دول القارة، وهی (مالی ــ النیجر ــ بورکینافاسو ــ تشاد ــ أفریقیا الوسطى ــ أوغندا ــ زامبیا ــ زیمبابوی ــ مالاوی ــ بتسوانا ــ سوازیلاند ــ رواندا ــ بورندی ــ إثیوبیا) والجدیر بالنظر ــ بعیدًا عن عقلیة المؤامرة ــ أن معظم الدول الحبیسة إما دول أفریقیة ذات غالبیة إسلامیة ومجاورة لدول ساحلیة ذات أقلیات إسلامیة کبیرة مثال (مالی ــ النیجر ــبورکینافاسو ــ تشاد ــ إثیوبیا ــ أوغندا) أو دول أفریقیة ذات أقلیات إسلامیة ضئیلة، تجاور دولاً ذات وجود إسلامی فاعل (مالاوی، زیمبابوی،زامبیا).
فلا یخفى أن استقلال المستعمرات الفرنسیة فی إطار الوحدتین الرئیسیتین للمستعمرات الفرنسیة (المستعمرات الفرنسیة الغربیة، المستعمرات الفرنسیة الاستوائیة) کان یعنی بالضرورة امتداد النطاق الإسلامی بفعل الثقل السکانی إلى جل بقاع القارة واختراق حاجز النطاق الاستوائی. الأمر الذی لم یحظ بعد بالدراسة الواجبة فیما یتصل بأثر الدولة الحبیسة فی حجب انسیاح الظاهرة الإسلامیة فی القارة، لا سیما فی ظل ما أسفر عنه التقسیم السیاسی الاستعماری للقارة من تمزیق للکیانات الاجتماعیة بتشکیلاتها المختلفة (جماعات اثنیة، عرقیة ،قبائل...) بین أکثر من دولة أفریقیة([13]).
بینما یرتکز الوجود المسیحی فی المنطقة الهضبیة منها، وفی الجنوب یترکز الوجود الإسلامی فی جنوب أفریقیا فی بعض المناطق الساحلیة لاسیما فی منطقة الکیب ومقاطعة کوازولوناتال([14])، وتعرف شرق أفریقیا أیضًا ظاهرة الترکز الساحلی للمسلمین على نحو ما تشیر خبرة کل من کینیا وتنزانیا، وموزمبیق فی الجنوب الشرقی([15]).
وعلى الرغم من أن ظاهرة الترکز الساحلی للمسلمین فی کثیر من الدول تعود إلى عوامل تاریخیة تتعلق بالطبیعة التجاریة للمسلمین الأوائل فی هذه البلدان، فإن الممارسات الاستعماریة قد حرصت على الحد من ظاهرة الامتداد الإسلامی إلى داخل البلاد فی تلک المناطق، وقامت بالفصل الفعلی عبر المراسیم الإداریة والقوانین بین المناطق الإسلامیة وغیرها من المناطق فی بعض الوحدات والمستعمرات الخاضعة على نحو ما تشیر خبرة کل من السودان ونیجیریا..
وإذا کانت ظاهرة الترکز الإقلیمی للمسلمین تسمح لهم فی کثیر من الأحیان بتشکیل کتلة تصویتیة یعتد بها فی الانتخابات المختلفة، فإنها من ناحیة أخرى ترسخ ظاهرة الفصل الاستعماری سالفة الذکر وتعمق الفجوة بین المسلمین وغیرهم من مواطنی البلاد الأمر الذی کانت ــ وما زالت ــ له تداعیات سلبیة على نحو ما تکشف الدعوات المتصاعدة من آن إلى آخر فی بعض البلدان الأفریقیة؛ للتخلص من الأقلیات الإسلامیة ومصادرة أملاکها باعتبارهم لیسوا من أهل البلاد الأصلیین. وهو أمر یرجع فی جانب منه لبعض الممارسات الانعزالیة والاستعلائیة من جانب بعض أبناء الجالیات الإسلامیة لا سیما فی غرب أفریقیا وشرقها، ویرجع للممارسات القهریة ضد المسلمین على نحو ما تشهد خبرة الاورومو، الصومالیین فی إثیوبیا، ومسلمی إریتریا ، ولیبریا وسیرالیون([16]).
4- تکریس التبعیة والتخلف:
وتتبدى علاقه القوى الاستعماریة بتلک الظاهرة فی العدید من الملامح والممارسات .فعلى الصعید الاقتصادی رسخت القوى الاستعماریة علاقات التبعیة الاقتصادیة بمستعمراتها السابقة عبر مجموعة من الممارسات، أبرزها ربط البنیة الأساسیة وشبکة المواصلات والاتصالات بالدولة المستعمرة، ومستلزمات الانتاج الزراعی والصناعات الأولیة التی تقوم الدولة التابعة بتصدیرها الى الدولة الأم مقابل اعتماد شبة تام من الأولى على الأخیرة فی سد احتیاجاتها من الآلات والأدوات الصناعیة والخبرات الفنیة فی المجالات المختلفة فضلاً عن ارتباط عملات الکثیر من الدول الأفریقیة بعملة الدولة المستعمرة على نحو ما تشیر خبرة غرب أفریقیا.
وعلى الصعید الاجتماعی والثقافی، استطاعت القوى الاستعماریة خلق نخب ثقافیة واجتماعیة مرتبطة بالثقافة الغربیة عبر السیاسات التعلیمیة والبعثات التبشیریة، علاوة على النخب الاقتصادیة المصلحیة؛ الأمر الذی أسفر عن ازدواجیة ثقافیة فی معظم الدول الأفریقیة الإسلامیة ما بین نخب حاملة للثقافة الغربیة وعلومها، وهی نخب علمانیة فی معظمها، وجماهیر متمسکة بالثقافة التقلیدیة مع شعور بالنقص لافتقارها للمهارات والخبرات المتوافرة لدى المتغربین من أبناء جلدتهم([17]).
وعلى الصعید السیاسی، وفی ضوء الواقع الاقتصادی الاجتماعی سالف الذکر، عمدت القوى الاستعماریة إلى تسلیم السلطة عند رحیلها إلى الجماعات الموالیة لها ،خاصة فی الحالات التی تم فیها الاستقلال بغیر کفاح مسلح ویفسر ذلک عدم استناد العدید من دساتیر الدول الأفریقیة الإسلامیة وقوانینها الى المبادئ الإسلامیة، والأکثر من ذلک قبول دول ذات أغلبیة إسلامیة کالسنغال، سیرالیون، حکم رؤساء مسیحیین تُعاونهم نخبٌ تلقت تعلیمها على ید الإرسالیات المسیحیة، فی ظل حقیقة دعم القوى الغربیة بعامة لهذا التوجه([18]).
ج – المشکلات الناجمة عن ممارسات النظم الأفریقیة:
مع استقلال الدول الأفریقیة أعلنت النخب الحاکمة الجدیدة عن أهداف رئیسیة تعهدت بتحقیقها تعلقت فی مجملها بعملیة بناء «الأمة» بالمفهوم الوطنی وفی إطار الرقعة الجغرافیة التی استحولت علیها النخبة الحاکمة ولیس بالمفهوم الإسلامی ولا القومی الغربی، و «عملیة التنمیة»([19]).
وقد اعتمدت الدول الأفریقیة فی سعیها لتحقیق هذین الهدفین على عدد من السیاسات والأبنیة تفاوتت فیما بینها ما بین الحکم المرکزی السلطوی واللامرکزیة، إلا أن الجامع المشترک بین کافة تلک السیاسات والممارسات هو أنها جمیعًا استمدت من خبرة المجتمعات الغربیة بشقیها الرأسمالی والاشتراکی وفق الخبرة التاریخیة والتحالفات والارتباطات الدولیة.
وعبر أربعین عامًا من الممارسات القائمة على التطبیقات المشوهة للخبرات والنماذج الغربیة فی المجتمعات الإسلامیة الأفریقیة، لازم الفشل کافة التجارب الأفریقیة بعامة والإسلامیة، بخاصة الساعیة لتحقیق الأهداف سالفة البیان فی ظل ما سلف بیانه من عیوب هیکلیة فی تکوین ونشأة الکثیر من الدول الأفریقیة وافتقارها إلى الحدود الدنیا من المتطلبات الاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة اللازمة لقیام الدولة([20]). حیث أدى تمسک الدول الأفریقیة بکیانها ووجودها الهش استنادًا وارتکانًا إلى الدعم والرعایة الخارجیة إلى تفویت فرصة إقامة کیان جامع للدول الأفریقیة الإسلامیة بالقارة، حیث لم یکن مثل هذا الطرح قائمًا لدى العدید من النخب الحاکمة فی الدول الإسلامیة بعامة والأفریقیة بخاصة.
وقد أدى غیاب ــ أو تغییب ــ المفهوم الجامع للأمة الإسلامیة والتمسک بفکرة السیادة إلى بروز مشکلات حادة فی النطاق الإسلامی من القارة تمثلت فی العدید من الصراعات الحدودیة التی شهدتها البلدان الأفریقیة الإسلامیة، حیث یلاحظ المرء أن مناطق التماس بین الدول الأفریقیة الإسلامیة شمال وجنوب الصحراء کانت أکثر مناطق النزاعات الحدودیة على نحو ما تشهد خبرة نزاعات کل من (الجزائر ــ تونس) (الجزائرــ المغرب) (المغرب ــ موریتانیا) (مصر ــ السودان) (موریتانیا ــ السنغال) (مالی ــ بورکینافاسو) (لیبیا ــ تشاد) (توجو ــ غانا) (الکامیرون ــ نیجیریا) ،(مالاوی ــ تنزانیا)،(مالی ــ موریتانیا) ،(النجیر ــ بنین)، (الصومال ــ إثوبیا) (الصومال ــ کینیا)، (السودان ــ کینیا)، (السودان ــ أوغندا) والملاحظ أن معظم تلک الصراعات کان أحد أطرافها دولة أفریقیة إسلامیة بأی من المعاییر سالفة البیان، والأکثر من ذلک أن کثیرًا منها دارت بین دولة أفریقیة عربیة وأخرى غیر عربیة، الأمر الذی یشیر من طرف خفى إلى أثر تلک الحدود الموروثة عن الاستعمار متضافرًا مع ممارسات النخب الحاکمة فی تعمیق هوة الخلاف بین الشعوب الإسلامیة الأفریقیة والعربیة([21]).
وعلى صعید التنمیة فإنه على الرغم من الخطط الطموحة بشأن الاقتصاد الوطنی للدول الأفریقیة بعامة والإسلامیة منها بخاصة،إلا أنه سرعان ما تبین فشل تلک التوقعات والمبالغة فی الطموحات حیث تکشف مؤشرات التنمیة البشریة عن تدنى الأوضاع الاقتصادیة الاجتماعیة لمعظم الدول الأفریقیة الإسلامیة لا سیما تلک الواقعة جنوب الصحراء، والتی تکاد جمیعها تقع فی فئة الدول الأقل دخلاً والأکثر فقرًا فی العالم. فمن بین 25 دولة أفریقیة عضو فی منظمة المؤتمر الإسلامی (منظمة التعاون الإسلامی) هناک 12 دولة تقع بین أکثر الدول تخلفًا فی العالم وهی (بنین، بورکینافاسو، تشاد، جزر القمر، غینیا، غینیا بیساو، مالی،سیرالیون، الصومال، السودان،أوغندا، جامبیا..) بینما تقع بقیة الدول فی قائمة الدول منخفضة ومتوسطة الدخل([22]).
ولا یختلف الأمر کثیرًا عند الأخذ بمؤشرات دلیل التنمیة البشریة الصادر عن الأمم المتحدة والذی یقوم على أساس ترتیب الدول تنازلیًا وفق مجموعة من المؤشرات التی تعکس (درجة التعلیم، متوسط الدخل، العمر المتوقع، معدلات وفیات الأطفال، الرعایة الصحیة...)، حیث تأتی معظم الدول الأفریقیة الإسلامیة جنوب الصحراء فی ذیل قائمة ذلک الدلیل([23]).
وقد فاقم من خطورة وضع الدول الأفریقیة الإسلامیة الاقتصادی اعتماد معظم اقتصادات تلک الدول على تصدیر عدد محدود من السلع الأولیة والمعادن، الأمر الذی جعل تلک الاقتصادات رهن إرادة الدول الصناعیة الکبرى المستوردة لتلک السلع فی ظل علاقة شبه احتکاریة.
وعلى ذات الصعید الاقتصادی تقف مشکلة الدیون کحجر عثرة أمام جهود التنمیة التی تسعى إلیها الدول الأفریقیة، حیث أدت رغبة الدول الأفریقیة وطموحاتها فی تحقیق مشروعات التنمیة الى لجوء معظم تلک الدول إلى الاقتراض من المؤسسات المالیة الدولیة الحکومیة والخاصة لتمویل هذه المشروعات، ورغم إخفاق مشروعات التنمیة التی قادتها النخب الحاکمة فی الدول الأفریقیة فإن تلک النخب قد أسرفت فی الاقتراض الخارجی فی محاولة لمواجهة أعباء العجز فی النقد الأجنبی الناجم عن اختلال موازین المدفوعات،وقد ساعد على ذلک رغبة البنوک الأجنبیة فی إعادة تدویر ما قدر بنحو 131 ملیار دولار من ودائع الدول البترولیة لدیها([24]).
وفی حین اقترضت دول مثل نیجیریا بکثافة للتوسع فی صناعاتها البترولیة وبناء عاصمة جدیدة،فإن کثیر من الحکومات الأفریقیة قد استخدمت مواردها وقروضها من النقد الأجنبی فی بناء ترسانات عسکریة وشراء عقارات فی أوروبا والسلع الاستهلاکیة الغالیة، وإنشاء قاعات مؤتمرات حدیثة واستیراد أحدث السیارات. الأمر الذی فاقم من أزمة الدیون وعبئها بالنسبة للدول الأفریقیة خاصة مع إحجام مؤسسات التمویل عن منح المزید من القروض للدول الأفریقیة ثم تطورت الأوضاع منذ أواخر الثمانینیات ومطلع التسعینیات الى فرض شروط اقتصادیة وسیاسیة قاسیة على الدول المدینة فیما عرف باسم مشروطیة برامج التکیف الهیکلی التی تزعمها صندوق النقد والبنک الدولیین، والتی کان لها آثار اقتصادیة واجتماعیة سلبیة على العدید من دول القارة([25]).
ثانیًا: واقع الدعوة ومشکلاتها:
توضح البیانات مدى التنافس الدینی القائم فی القارة هو بین الإسلام الذی یمثل دین الأغلبیة بصفة عامة فی القارة وبین المسیحیة بطوائفها ومذاهبها المختلفة والتی تأتی فی المرتبة الثانیة فی القارة. وتبین کذلک أن قطاعًا یعتد به من سکان القارة مازال یتبع المعتقدات التقلیدیة الأمر الذی یجعل من هؤلاء الأتباع مجالاً للدعوة الإسلامیة وعملیات التنصیر المختلفة فی ظل حقیقة أنه فی کثیر من البلدان یمکن أن یمثل هؤلاء الأتباع العامل المرجح لأی من العقیدتین السماویتین.
وعلى حین تشهد النظم الحاکمة فی کثیر من الدول الأفریقیة تراجعًا فی قدراتها وتآکلاً فی شرعیتها، فإن الدراسات تشیر إلى تزاید مطرد فی أعداد المسلمین. فتشیر إحدى الدراسات إلى أنه ما بین عامى 1900 و1952 زادت نسبة المسلمین من شعب الهوسا بشمال نیجیریا من 50% ألى 80%،کما تحولت جماعة السیریر Serer السنغالیة من اتباع المعتقدات التقلیدیة والمسیحیین اسمًا إلى الاسلام، کما تزاید انتشار الإسلام فی المناطق الداخلیة فی کل من غینیا، ساحل العاج، توجو، بنین وهی المناطق التی تشهد انتشارًا حثیثًا للإسلام حالیًا کما تشهد الظاهرة الإسلامیة انتشارًا وتقبلاً فی کثیر من مناطق الکامیرون وتشاد والنجیر، وموزمبیق حیث استطاعت العقیدة الإسلامیة التغلغل والانتشار على الرغم من ممارسات وسیاسات جبهة الفریلیمو الحاکمة المناوئة للدین والتی حدت من نفوذ المذاهب المسیحیة المختلفة، حیث اضطرت الجبهة للتخفیف من حدّة وسائلها عند التعامل مع الظاهرة الإسلامیة تجنبًا لحدوث رد فعل عنیف من جانب المسلمین([26]). وتشیر بعض الدراسات إلى اکتساب الإسلام أنصارًا له فی بقاع جدیدة من زامبیا وزیمبابوی ونامیبیا بفضل جهود المؤسسات والجمعیات الإسلامیة لا سیما الجنوب أفریقیة والتی زادت جهودها وأنشطتها بعد انتهاء الحکم العنصری فی جمهوریة جنوب أفریقیا، علاوة على جهود المؤسسات الإسلامیة الأخرى.
على الرغم من المؤشرات الإیجابیة سالفة البیان، فإن طریق الدعوة الإسلامیة لم یخل من عقبات ومعوقات وسلبیات یمکن إجمال أهم ملامحها فیما یلی:
أ ــ استمراریة نفوذ المعتقدات التقلیدیة:
حیث تشیر الدراسات إلى أن بعض مسلمی الدول الأفریقیة جنوب الصحراء مازالوا یمارسون بعض الطقوس الخاصة بالمعتقدات التقلیدیة، لا سیما فیما یتصل بعادات مثل: استرضاء أرواح السلف والأجداد والاعتقاد فی نفعهم وضرهم، وتقدیم الهدایا والقرابین لتلک الأرواح، علاوة على بعض العادات الخاصة بالزواج والموت([27]). وبصفة عامة تذکر إحدى الدراسات إلى أن الإسلام فی أفریقیا یتسم ببعض الخاصة تجسدها طبیعة وخصائص الإسلام فی جمهوریة النجیر وتحدیدًا بین قبائل الجیر ما Dejerma ملئ بالسحر، وتلعب فیه الأوهام والتعاویذ دورًا کبیرًا فی حین یختلط مسلمو الهوسا والتیجانیة ومعتنقو المعتقدات التقلیدیة فی الوسط ویتداخلون، وفی حین تتمسک جماعة الکانوری فی الشرق بإسلامها الذی حافظت علیه لقرون منذ کانت جزءًا من مملکة «البورنو» ([28]).
وتقدم نییجریا نموذجًا مشابهًا، حیث الشمال یکاد یکون مسلمًا بأکمله فی حین یختلط المسلمون وأتباع المعتقدات التقلیدیة فی الوسط، بینما الجنوب یشتمل على خلیط من المسلمین والمسیحیین والتقلیدیین، ومثل ذلک بتفاوتات بسیطة یمکن أن یقال عن الکامیرون وتشاد والسودان وغیرها من الدول الأفریقیة الإسلامیة جنوب الصحراء([29]).
وتتمثل خطورة ذلک المظهر والتوزیع فیما یؤدی إلیه من تشوه وتشوش فی العقیدة على نحو یسفر فی جمیع الأحیان عن مفارقات وأوضاع غیر شرعیة کزواج المسلمة من مشرک أو مسیحی وقبول الأسرة (المسلمة) تغییر الابن لعقیدته. لا سیما فی مناطق التماس والتداخل بین الجماعات الدینیة المختلفة([30]).
ب ــ عملیات التنصیر والارتداد:
حیث تشیر الدراسات إلى تصاعد اهتمام المؤسسات الکنسیة على اختلاف مذاهبها وطوائفها بدعم حرکة التنصیر فی أفریقیا ومواجهة ظاهرة الإحیاء الإسلامی التی شهدتها بلدان مثل (کینیا ،تنزانیا، سیرالیون، ساحل العاج، نیجیریا)، فضلاً عن حصارها فی منابعها الأصلیة فی المنطقة العربیة. حیث عبر بعض الساسة الأمریکیین عن قلقهم من تصاعد الأصولیة الإسلامیة فی الشمال الأفریقی فی مطلع التسعینیات، محذرین من إمکانیة اندفاعها جنوبًا بما یؤثر على مصالحهم بالقارة([31]).
وعلى الرغم من اتجاه بعض الباحثین إلى التقلیل من المخاوف المتعلقة بالمد الأصولی الإسلامی فی أفریقیا، فإن الشواهد تشیر إلى أن ثمة إجراءات تتخذ للحیلولة دون البروز الجدى للمد الإسلامی فی الساحة عبر التضییق من الفضاء الاجتماعی بالمعنى الواسع أمام العمل الإسلامی فی مختلف دول القارة على نحو ما تشهد خبرة کل من الجزائر فی الشمال وموریتانیا وساحل العاج وسیرالیون ولیبریا والکامیرون فی الغرب وکینیا وإثیوبیا وإریتریا وتنزانیا والسودان فی الشرق..
مع تقدیم کافة سبل الدعم المادی والمعنوی لجهود التنصیر للقیام برسالتها،والتی استفاد القائمون علیها من خبرات وإخفاقات المراحل السابقة حیث اتخذت عملیات التنصیر أشکالاً ووسائل جدیدة تمثلت بالأساس فی الحرص على الاستتار خلف خدمات عامة إغاثیة،تعلیمیة، ترفیهیة، صحیة، وعدم الاقتصار على العمل التبشیری المباشر، علاوة على الحرص على أن یحمل عبء التنصیر جماعة من أبناء المجتمع المستهدف للتغلب على واحدة من أکبر العقبات التی حالت طویلاً بین أبناء القارة والاستجابة للقساوسة من أبناء أوروبا([32])، یساعد على ذلک تواری خبرة التجربة الاستعماریة لدى الأجیال الجدیدة من أبناء الدول الأفریقیة بعامة والأفریقیة الإسلامیة بخاصة الذین لم یعاصروا آلام تلک الحقبة، ولم یشهدوا سوى عسف وظلم نظمهم الوطنیة، الأمر الذی دفع البعض للمطالبة بالانفصال والعودة إلى أحضان الدولة الاستعماریة السابقة على نحو ما تشهد خبرة جزیرة «انجوان» بجمهوریة جزر القمر. وتشیر بعض البیانات إلى أن تلک الممارسات التنصیریة قد نجحت فی تحویل بعض المسلمین إلى النصرانیة، وعلى الرغم من تهوین مصادر البیانات من وقع الحدث بدعوة أنه تم استغلال حاجة المسلمین وفقرهم وإغرائهم للارتداد عن دینهم، فإن الأمر لا یخلو من دلالة تتمثل فی ضرورة مراجعة ما یذکر من أنه یصعب تحویل مسلم عن عقیدته أو مسیحی عن عقیدته وأن ساحة التنافس بین العقیدتین هی أتباع المعتقدات التقلیدیة، یزید من أهمیة تلک المراجعة ما أشار إلیه بعض الطلاب الأفارقة الدارسین بمصر من بروز اتجاه بین الأفارقة یدعو للتخلص من الدیانات الوافدة إلى القارة والعودة من جدید للمعتقدات التقلیدیة الأفریقیة ([33]).
ج – تشتت الجهود الإسلامیة وتضاربها:
فإلى جانب ضعف إمکانات المؤسسات الدعویة الإسلامیة ــ مقارنة بالمؤسسات التنصیریة ــ تعانی الدعوة الإسلامیة من ظاهرة تشتت جهود الدعوة وعدم التنسیق بینها،الأمر الذی یزید من ضعف تلک الجهود ویقلل من فاعلیتها وثمارها، فعلى الرغم من وجود مؤسسات إسلامیة ذات تراث کبیر وعریق فی الدعوة الإسلامیة مثل الأزهر الشریف، وجامع الزیتونة، والقیروان، وکذا مؤسسات إسلامیة فاعلة مثل الجامعة الإسلامیة بالمدینة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود بالریاض ومنظمة الدعوة الإسلامیة بالسودان، ولجنة مسلمی أفریقیا الکویتیة، والندوة العالمیة للشباب الإسلامی بالسعودیة، المنتدى الإسلامی علاوة على جهود منظمة المؤتمر الإسلامی (منظمة التعاون الإسلامی) والحرکات الصوفیة والجماعات الإسلامیة والمؤسسات الإسلامیة المحلیة داخل کل دولة إسلامیة، فإن الواقع یشیر کما سلف الذکر إلى أن کثیرًا من الجهود الإسلامیة تعانی من عدم الدقة فی التخطیط، وعدم التنسیق على نحو یؤدی إلى إهدار الجهود والإمکانات.هذا علاوة على السلبیات الناجمة عن ممارسات بعض القائمین على أمر الدعوة الإسلامیة، والتی یلخصها رئیس جماعة الدعوة فی نیجیریا فی حدیث له مع جریدة «المسلمون» حیث یقول: «إن أفریقیا فی حاجة إلى دعاة یدعون إلى الإسلام بسلوکهم لا بأقوالهم،ویتاجرون فی الدنیا لیربحوا الآخرة کما فعل الصحابة الأولون. وانتقد رئیس جماعة الدعوة ترکیز النخب الإسلامیة الأفریقیة على الجدل النظری وإهمالهم العلوم الطبیعیة لصالح العلوم النظریة، وکذا میلهم لتجریح بعضهم بعضًا والتشهیر ببعضهم البعض، وعزوف الکثیرین من الدعاة من الذهاب إلى أفریقیا جنوب الصحراء بدعوى الخوف من الأمراض وشظف العیش، الأمر الذی جعل صورة العربی الآن منفرة؛ بعد أن کان قدیمًا محط اهتمام الأفارقة.فالدعاة المبعوثون من الدول العربیة إلى أفریقیا ــ من وجهة نظره ــ أصبحوا مجرد موظفین یذهبون بتکلیف رسمی، وحینما یأتون إلى أفریقیا فإنهم یحملون معهم المهاترات والخلافات والانشقاقات التی تذهب ببساطة الإسلام ووضوحه، أکثر من ذلک، أنه یرى أنه قد ینجح داعیة فیجیء من یحل محله فیجعل شاغله الأول التشکیک فیما قاله سلفه وهدم ما بناه »([34]). وتتواتر البیانات والمعلومات الصحفیة والشفاهیة عن خلافات شبه یومیة بین أنصار الصوفیة وأعضاء الجماعات الإسلامیة السلفیة الأمر الذی ینال من صورة الوحدة الإسلامیة ویضعف من قوة العمل الإسلامی.
د – التهدید النابع من العلمانیة الغربیة:
تکاد الدراسات المعنیة بالظاهرة الإسلامیة فی الغرب والشرق، تجمع على أن أخطر التحدیات التی تواجه العالم الإسلامی بصفة عامة هی ظاهرة العلمانیة الغربیة ولیست عملیات التنصیر، وإن کانت الأولى یمکن أن تکون مدخلاً جیدًا للثانیة خاصة مع سیادة مفاهیم العولمة وانتهاء الخصوصیة الثقافیة، وتتبدى آثار عملیة التغریب فی المجتمعات الأکثر تقدمًا فی أفریقیا، حیث یعبر الدکتور علی مزروعی عن تلک الظاهرة بقوله إنه «من المستحیل أن تکون مسلمًا، ومسیحیًا فی وقت واحد،ولکن من الطبیعی جدًا أن تکون مسلمًا ومتغربًا فی آن واحد»([35])، ویستشهد فی ذلک بأن دول الشمال الأفریقی هی أکثر الدول إسلامیة بمعیار العدد السکانی ونسبة المسلمین، وهی فی ذات الوقت أکثر دول القارة تمثلاً للغرب وتأثرًا به، وفی خطورة ذلک یقول مزروعی: «إنه عندما یفتن الشباب بموسیقى الدیسکو والملاهی، فإن عقیدتهم تصبح مهددة بصورة أکبر من الحالة التی یستمعون فیها إلى مبشر مسیحی»([36]).
المطلب الثالث: واقع الظاهرة الإسلامیة وتحدیات العولمة فی أفریقیا
توجد على الساحة الأفریقیة تنظیمات إسلامیة جامعة تهدف إلى،دعم حرکة الدعوة الإسلامیة فی أنحاء القارة. ومن أبرز هذه التنظیمات: منظمة الدعوة الإسلامیة، ومنظمة الإسلام فی أفریقیا، والمرکز الإسلامی الأفریقی، والمؤتمر الشعبی العربی الإسلامی([37]).
1 – منظمة الدعوة الإسلامیة:
أنشئت فی لیبیا عام 1972 بهدف نشر اللغة والثقافة العربیة والإسلامیة فی أفریقیا، ویمکن تحدید أهم أهداف هذه المنظمة بشکل عام على النحو التالی:
ــ نشر اللغة العربیة، لغة القرآن الأصلیة.
ــ تشجیع المسلمین على تبنی العربیة کلغة رسمیة.
ــ تفسیر القرآن بشکل مبسط یسهل على العامة فهمه.
ــ العمل على تطبیق أحکام الشریعة الإسلامیة.
ــ نشر الموسوعات الإسلامیة وتنظیم وعقد المؤتمرات.
ــ تدریب الدعاة المسلمین وإرسالهم للخارج بهدف تدریب الآخرین.
وقد قامت المنظمة بتوفیر المنح الدراسیة على المستوى الجامعی، کما مولت بناء المساجد وأسهمت فی بناء مشروعات البنیة الأساسیة فی العدید من الدول الأفریقیة.
2- منظمة الإسلام فی أفریقیا:
أنشئت فی العاصمة النیجیریة أبوجا عام 1989، وهی منظمة دعویة تهدف إلى نشر الإسلام.وقد تشکلت لجنتها التنفیذیة الأولى من ممثلین من نیجیریا والنیجر وجامبیا وموریتانیا والسنغال وتونس ولیبیا وتنزانیا والسودان والمجلس الإسلامی لأوروبا، ویتضح من میثاق هذه المنظمة أنها هیئة غیر حکومیة مستقلة تخدم الأمة الإسلامیة فی أفریقیا على وجه الخصوص وفی العالم أجمع. وهی تنص على أن أهدافها تتمثل فی:
ــ دعم وتعزیز وتنسیق العمل الدعوى فی مختلف أنحاء أفریقیا والعمل کذلک على نشر المعرفة الإسلامیة فی القارة.
ــ دعم وتشجیع وتعلیم وتنمیة الشباب المسلم وضمان أن تتبوء المرأة مکانها الصحیح فی المجتمع طبقًا لتعالیم الشریعة.
ــ العمل على ترجمة ونشر الأعمال الإسلامیة إلى مختلف اللغات الأفریقیة.
ــ العمل على تشجیع تعلم اللغة العربیة فی مختلف أنحاء أفریقیا.
ــ العمل من أجل احترام حقوق الإنسان وکرامته، والعمل کذلک بشتى السبل من أجل تحقیق العدالة والحریة فی العالم أجمع.
3- المرکز الإسلامی الأفریقی:
أنشئ فی مدینة أم درمان السودانیة عام 1967؛ وذلک بهدف تدریب الشباب الأفریقی من مختلف البلدان والإسلامیة، وذلک بغیة خلق نخبة ذات توجه عربی إسلامی و لا سیما فی أفریقیا الشرقیة. وقد عمل المرکز منذ البدایة على محاربة الإرث الاستعماری المتمثل فی بث روح الکراهیة للعروبة والإسلام فی قلوب الأفارقة، وعلى الرغم من إغلاق هذا المرکز على ید النمیری عام 1969 إلا أنه افتتح مرة أخرى عام 1977 حیث تم تزویده ببنیة أساسیة ملائمة وذلک بفضل التمویل الذی قدمته بعض الدول العربیة لکن سرعان ما توقف هذا الدعم بسبب موقف السودان منالغزو العراقی للکویت عام 1991. على أن المرکز فی شکله الجدید قد رکز على الجوانب البحثیة والدراسیة فی مجال العربیة والإسلام والنشاط الدعوی. وفی عام 1992 قامت حکومة الإنقاذ بتحویل المرکز الإسلامی الأفریقی إلى جامعة أفریقیا العالمیة حیث تم حذف کلمة الإسلامی من اسم هذه الجامعة.
4- المؤتمر الشعبی العربی والإسلامی:
لقد انعقد هذا المؤتمر لأول مرة عام 1991 فی الخرطوم على ید الدکتور حسن الترابی زعیم الحرکة الإسلامیة فی السودان، وقد تأسس هذا المؤتمر على قاعدة الأمم الإسلامیة التی تقودها السودان، ومن ثم ضم المؤتمر أقطاب الحرکات الإسلامیة فی العالمین العربی والإسلامی أمثال السید راشد الغنوشی زعیم حرکة النهضة التونسیة.وقد انعقد المؤتمر الثانی عام 1993 أیضًا فی الخرطوم بحضور نحو ستمائة مندوب. وفی هذا المؤتمر أعید انتخاب الترابی رئیسًا وتم تشکیل مجلس أمناء حیث أعطیت نسبة 30% من إجمالی المقاعد لأفریقیا.
وعلى أی الأحوال فإن الخلاف الذی وقع بین الترابی وحکومة الرئیس البشیر والذی أدى إلى خروج الترابی نفسه من التحالف الحاکم بل ووضعه رهن الاعتقال یطرح التساؤل حول مدى أهمیة هذا المؤتمر وطبیعة الدور المحوری الذی لعبه الترابی فی تأسیسه.
یلاحظ من الخطاب الإسلامی فی أفریقیا خلال حکم الدولة القومیة أن وضع التنظیمات والحرکات الإسلامیة هو مختلف من دولة لأخرى. فإذا کانت الحرکات الإسلامیة ذات الطابع الإصلاحی قویة ومؤثرة فی دول مثل الجزائر ومصر، فإنها لیست کذلک فی دولة مثل السنغال التی یزید عدد المسلمین فیها عن (90%) من إجمالی السکان، وفی نیجیریا التی یزید عدد مسلمیها عن (50%) یوجد صراع وتوتر بین الجماعات الإسلامیة من جهة وبین هذه والجماعات المسیحیة من جهة أخرى.وفی تنزانیا التی یشکل المسلمون فیها أقلیة کبیرة تصل إلى نحو (40%) من إجمالی السکان تکتسب حرکات الإسلام السیاسی قوة وتأثیرًا بحیث تدفع إلى مزید من التوتر فی العلاقات الإسلامیة المسیحیة.
وعلى أیة حال سوف نحاول إعطاء صورة موجزة عن الجانب التنظیمی والمؤسسی للحرکات الإسلامیة الأفریقیة ابتداءً من عقد السبعینیات من القرن العشرین. ما طبیعة هذه التنظیمات الوطنیة الرسمیة وغیر الرسمیة؟
على الرغم من أن بعض الحرکات والتنظیمات الإسلامیة ذات الطابع الإصلاحی والاجتهادی مثل جماعة الأخوان المسلمین، قد نشأت فی الربع الأول من القرن العشرین فإن هذه التنظیمات ترتبط بشکل أساسی بمرحلة ما بعد الاستعمار فی أفریقیا .لقد انتشرت هذه التنظیمات فی السبعینیات واستمرت فی الظهور خلال عقدی الثمانینیات والتسعینیات. ویرى البعض أنها توجهت بالأساس ضد الممارسات الصوفیة التقلیدیة والتنظیمات الکنسیة المسیحیة السائدة من جهة وضد التنظیمات الإسلامیة ذات الطابع الوطنى الرسمی من جهة أخرى.
لقد حاولت الحکومات الأفریقیة فی مرحلة ما بعد الاستقلال الحصول على دعم الزعماء الدینیین وإضفاء نوع من الشرعیة على نظام الحکم العلمانی، فقامت بإنشاء تنظیمات دینیة وطنیة إسلامیة ومسیحیة على السواء. وکان من المفترض أن تقوم هذه التنظیمات بالمساعدة على تحقیق السیاسات الحکومیة فی فرض السلام والتجانس بین معتنقی الأدیان کافة.
ففی نیجیریا على سبیل المثال، تم تأسیس «المجلس الأعلى للشؤون الإسلامیة» خلال نظام حکم أوباسنجو عام 1977، وذلک تحت رئاسة سلطان سوکوتو. وکانت الغایة من وراء إنشاء هذا المجلس هی توفیر قنوات للحوار والنقاش مع ممثلی المجتمع المسلم، على أن یکون هذا المجلس محط أنظار المسلمین کافة فیکون دلیل قیادتهم ووحدتهم. وخلال الجدل الذی ثار بعد ذلک حول انضمام نیجیریا الى منظمة المؤتمر الإسلامی قام الرئیس بابنجیدا بإنشاء «لجنة استشاریة للشؤون الدینیة» بعضویة مسلمین ومسیحیین یختارهم الرئیس بنفسه، وکان الهدف المتوخى من وراء إنشاء مثل هذه اللجنة هو تقدیم المشورة والمساعدة على الفهم من أجل توفیر الحلول لمختلف القضایا التی تثیر الشک والعداء وعدم الثقة. وفی شرق أفریقیا قامت الحکومات بدعم وتأیید التنظیمات الدینیة الوطنیة مثل «المجلس الأعلى للمسلمین فی تنزانیا» والمجلس الأعلى لمسلمی أوغنده، وجمعیة مسلمی رواندا، وجمعیة مسلمی ملاوی.
على أن الحرکات الإسلامیة الإصلاحیة قاومت هذا النهج الحکومی الذی یحاول إضفاء نوع من الشرعیة على الوضع السیاسی القائم. وإذا کانت الطرق الصوفیة قد تم تمثیلها فی هذه التنظیمات الدینیة الرسمیة فإنه نادرًا ما تم اختیار الزعماء الدینیین الإصلاحیین لعضویة هذه المنظمات. وکما هو معروف فإن القاعدة الأساسیة فی أفریقیا فی مرحلة ما بعد الاستعمار هی حظر قیام أحزاب سیاسیة على أسس دینیة. وعلى سبیل المثال فإن السید / أحمد خلیفة نیاس عندما قام عام 1979 بتأسیس حزب الله فی السنغال تم حظره على الفور واعتقال نیاس نفسه.
والملاحظ الجدیرة بالأنتباه؛ هی اختلاف خبرة شرق أفریقیا عن غربها، ففی حین تتمیز الظاهرة الإسلامیة فی غرب أفریقیا بالنقاء الحضاری، حیث تتبع القیادات الدینیة التی تزعم بأنها من أصول عربیة، بل وقرشیة على وجه التحدید وهو ما یشکل أحد مصادر التوتر بین العروبة والأفریقانیة.فإذا کان الإسلام قد انتشر فی کینیا على أیدی التجار الیمنیین الذین استقر بعضهم هناک فإن لحظات التوتر وعدم الاستقرار تدفع إلى اتهام مسلمی کینیا بأنهم لیسوا مواطنین خلصًا على الرغم من أنهم یشکلون ثلث سکان البلاد. ولا أدل على ذلک من أنه حینما رشح أحد المسلمین نفسه فی انتخابات الرئاسة عام 1993 قامت السلطات الکینیة بسحب جواز سفره والجنسیة الکینیة منه بدعوى أنه من أصل یمنی.
بعد انتهاء الحرب الباردة، وبروز الولایات المتحدة باعتبارها القطب الأوحد المسیطر على العالم بدأ الحدیث عن أطروحات جدیدة مثل أمرکة العالم التی تفرض مفاهیم السلام بمدلولها الأمریکی، ونهایة التاریخ وانتصار المشروع الرأسمالی اللیبرالی ، وتبلور قوى وآلیات العولمة الجدیدة. فما تأثیر ذلک التحول فی منظومة النظام الدولی على واقع الظاهرة الإسلامیة فی أفریقیا؟ وما المخاطر والتحدیات التی یستبطنها ذلک التحول؟
1 – الخوف من الإسلام واعتباره العدو الاستراتیجی الجدید للغرب
لقد أشار الخطاب الاستراتیجی الغربی فی أکثر من موضع أن اختفاء الشیوعیة باعتبارها العدو الرئیسی للمشروع الرأسمالی الغربی لا یعنی عدم وجود مخاطر أخرى. وفی هذا السیاق طرح مفهوم الإسلام السیاسی أو ما یطلق علیه بعض المحللین فی الغرب اسم الأصولیة الإسلامیة. وقد ظهر ذلک جلیًا بالنسبة للحالة الأفریقیة فقد وقف الغرب على الرغم من مناداته بالدیموقراطیة وحریة المشارکة السیاسیة مع قرار الجیش الجزائری بإلغاء نتائج الانتخابات العامة التی فازت فیها الجبهة الإسلامیة للإنقاذ عام 1991. وعلى صعید آخر فقد تم احتواء النظم الرادیکالیة مثل السودان ولیبیا بحجة أنها تدعم الإرهاب. وقد حاولت الولایات المتحدة استخدام سیاسة الاحتواء ضد هاتین الدولتین من خلال فرض طوق من العزلة الدولیة علیها من جهة وتشجیع نمط من القیادات الأفریقیة الجدیدة الموالیة للولایات المتحدة والمدافعة عن مصالحها من جهة أخرى. وقد ساندت الولایات المتحدة والدول الغربیة الحکومات الأفریقیة التی تتعرض لحظر ما أسمته الأصولیة الإسلامیة مثل أوغنده وکینیا وتنزانیا.
2 – العولمة ومخاطر الغزو الثقافی
إن العولمة تاریخیًا ترتبط بالغزو الثقافی، ویکفی أن نتذکر ما فعله المهاجرون الأوائل فی القارة الأمریکیة بالهنود الحمر أو ما فعله المستعمر الأوربی فی أفریقیا. وعلى أیة حال فإن القول بأن العولمة تفضی إلى انهیار الدولة القومیة وتعمل على تأسیس هویة عالمیة ینطوی على مخاطر جمة بالنسبة لأفریقیا وبالنسبة للمجتمعات الاسلامیة على وجه التحدید.إن ذلک یعنی ببساطة العودة لعهد الاسترقاق وسحق الهویات القومیة مقابل هویة الغرب المنتصر بعد الحرب الباردة.
إن النظام العالمی الجدید الذی یروج له الکثیرون یعانی من تناقضات کثیرة فالولایات المتحدة التی تمثل القطب الأوحد لا یمکن لها أن تقبل بقیام مؤسسات هذا النظام بتأدیة وظائفها العالمیة بشکل یضمن العدالة للجمیع. ولعل تقاعس الأمم المتحدة فی القیام بواجبها فی کثیر من مواقف الصراعات والأزمات الدولیة إنما یؤکد على أن القطب العالمی الجدید یسعى لتحقیق مصالحه هو.
3 – العولمة ومخاطر التفکیک:
الإشکالیة الأخرى التی تنطوی علیها عملیات العولمة فی مواجهة أفریقیا هی حظر التفکیک ضد کل شیء بما فی ذلک الإنسان نفسه. فهی موجهة ضد الأسرة والقبیلة والدولة والأمة. وما من شک فی أن الهویة الأفریقیة تعانی أزمة حادة منذ بدایات عصر التحدیث.فالنخب الحاکمة والمثقفة والتی تلقت تعلیمها فی دول الشمال أو دول الجنوب تشارک الغرب قیمه وتقالیده الثقافیة وإن کانت فی الوقت نفسه تحرص على مشارکة مجتمعاتها المحلیة طقوسها التقلیدیة والثقافیة. ولا شک أن هذا الانشطار فی الهویة الأفریقیة هو أخطر من ذلک الانقسام بین الریف والحضر.
4- العولمة ومخاطر التهمیش:
إن ثالوث العولمة المتمثل فی تکتل دول النافتا (الولایات المتحدة وکندا والمکسیک)،ودول الاتحاد الأوروبی، وتجمع دول المحیط الهادی یدفع إلى تهمیش معظم مناطق الجنوب ومن بینها أفریقیا. وعلیه فإن القارة الأفریقیة خضعت لشروط مجحفة سواء من جانب المؤسسات الدولیة المانحة أو فی إطار منظمة التجارة العالمیة.
إن سعی قوى العولمة لتحقیق حریة التجارة الخارجیة وحرة تدفق رؤس الأموال؛ أدى إلى فرض شروط ثلاثة على النظم السیاسیة الأفریقیة فی سیاق منظومة برامج التکیف الهیکلی. وهذه الشروط هی:
ــ المزید من الخصخصة.
ــ حریة الأسواق الداخلیة.
ــ انتشار وتعمیق ثقافة السوق.
ولا یخفى أن حریة التجارة بین أطراف غیر متکافئة: بین الدول الأوروبیة وبین أفریقیا سوف تفضی إلى تکریس التخلف والتبعیة الأفریقیة.
5- العولمة ومخاطر عدم الاندماج القومی
ارتبطت العولمة فی أفریقیا بإحیاء نزعات التطرف والعنف والانتماءات الأولیة بما یهدد بتفکیک الدول القومیة داخلیًا. وتزداد هذه المشکلة حدة فی البلدان التی تعانی أزمة تکامل قومی مثل الصومال والسودان ولیبریا وسیرالیون ورواندا وأوغنده وغیرها. ویمکن تفهم حقیقة المخاطر المترتبة على هذه المشکلات على ضوء أمرین مهمین:
أولهما: التدخل الدولی الإنسانی، حیث أصبح حق التدخل فی شؤون الدول الأخرى مرتبطًا بالعولمة الأمریکیة تحدیدًا.
ثانیهما: مراقبة الاضطهاد الدینی فی العالم من جانب الولایات المتحدة والدول الغربیة الأخرى.
خاتمة
لیس بخاف أن واقع المسلمین فی أفریقیا یعانی الیوم من أوجه ضعف بالغة قد ترتبط بطبیعة الإرث الاستعماری من جهة وبحقیقة تحدیات العولمة الجدیدة من جهة أخرى، فالمجتمعات الإسلامیة الأفریقیة تعانی من تخلف اقتصادی واجتماعی، کما أنها تفتقر إلى نموذج القیادات الحرکیة الواعیة، فضلاً عن أنها أهملت وظیفتها الکفاحیة التی تعبر عن إرادتها الإسلامیة.
وقد أضافت قوة العولمة الجدیدة تحدیات ومخاطر جدیدة قد تنال من وحدة وتماسک المجتمعات الإسلامیة فی أفریقیا بما یهددها بالتفکک والانقسام والتهمیش.
ومع ذلک، فإن الإطار الثقافی والدینی الذی تتمسک به المجتمعات المسلمة فی أفریقیا قد یکون حصنًا متینًا فی مواجهة هذه التحدیات، ولنضرب مثالاً على ذلک العلاقة بین الإسلام ومرض فقدان المناعة المکتسبة (المعروف باسم الایدز) فطبقًا لبعض الدراسات یمکن القول: إنه على الرغم من انتشار هذا المرض بشکل وبائی فی أفریقیا بحیث یصاب به المسلم وغیر المسلم فإن نسبة الإصابة به فی المسلمین تعد أقل من مثیلتها فی غیر المسلمین. ویرى بعض الباحثین أن ذلک یعزی بدرجة أساسیة إلى منظومة القیم الإسلامیة.
وعلیه فإنه یمکن الحدیث عن ضرورة تحقیق النموذج البدیل للواقع المعاش فی أفریقیا الیوم، والذی یعتمد على الخبرة التاریخیة ویأخذ السیاق الحضاری والدینی لهذه المجتمعات بعین الاعتبار. وتأتی أهمیة هذا النموذج فی أنه یستند إلى مرجعیة تخلق لدى الأفریقی الإحساس بالثقة فی الذات. فالإسلام بطبیعته یشعر من ینتمی إلیه بأنه أکثر سموًا ونبلاً من ذلک الذی لا ینتمی إلیه. یعنی ذلک أنه لا مجال للنزاعات العرقیة والطائفیة فی إطار هذا النموذج الحضاری.فهل یمکن طرح ذلک البدیل فی إطار الرؤیة الاستشراقیة لواقع المسلمین فی أفریقیا خلال القرن الواحد والعشرین؟!
الهوامش:
* - باحثان فی مرکز الحضارة للدراسات السیاسیة، القاهرة.
[1] ـ صبحی قنصوه، «المسلمون ومشکلات التعددیة الدینیة فی نیجیریا»،فی جمعیة الدعوة الإسلامیة: الإسلام والمسلمون فی أفریقیا (طرابلس: جمعیة الدعوة الإسلامیة العالمیة، 1998)،ص 389.
[2] ـ سلیمان خاطر، «أثر الضوابط الجغرافیة فی انتشار الإسلام وتوزیع أقلیاته»، فی جامعة الإمام محمد بن سعود: بحوث المؤتمر الجغرافی الإسلامی الأول (المملکة السعودیة: جامعة الإمام محمد بن سعود،المجلد الرابع، 1984) ،ص 62، وانظر على سبیل المقارنة الإحصاءات الحیویة الواردة عن القدرات التنمویة فی العالم الإسلامی فی الجزء الخاص بها من هذه الحولیة.
[3] ـ سلیمان خاطر، مرجع سبق ذکره، ص 62: 61 وانظر ایضا: د. حمدی عبدالرحمن: التعددیة وأزمة بناء الدولة فی أفریقیا الإسلامیة، مرجع سابق، ص 18: 17.
[11] ـ محمد عاشور، مرجع سبق ذکره، ص 84: 85، وانظر أیضًا: خدیجة النبراوی: تاریخ المسلمین فی أفریقیا ومشکلاتهم (القاهرة: النهار للطبع والنشر والتوزیع ، 1998) ص 171 : 173.
[12] ـ جمال حمدان، مرجع سبق ذکره، ص 86 : 92، وانظر محمد عاشور، مرجع سبق ذکره،ص 85: 86.
[13] ـ المرجع السابق، ص 109: 111، خدیجة النبراوی، مرجع سبق ذکره، ص 173.
[14] ـ انظر فی ذلک: جمال حمدان، العالم الإسلامی المعاصر (القاهرة: دار الهلال،کتاب الهلال، عدد 512 أغسطس 1993)، ص 34: 38.
Eduardo Serpa, "Islam in in Sub- Saharan Africa", in Africa insight (Johannesburg: The African Institute of South A frica, vol22, No.4, 1992), p.325:237
[15] ـ لمزید حول مسلمی جنوب أفریقیا وأحوالهم انظر: إبراهیم نصر الدین، «المسلمون فی أفریقیا: دراسة حالة جنوب أفریقیا وإریتریا»،فی مرکز الدراسات الحضاریة: الأمة فی عام: تقریر حولی عن الشؤون السیاسیة والاقتصادیة الإسلامیة [القاهرة: مرکز الدراسات الحضاریة، 1415هـ (1994 – 1995).ص 177: 186. عمر الصدیق عبدالله: «أضواء على أوضاع المسلمین واللغة العربیة فی جنوب أفریقیا» ،فی الندوة العالمیة للشباب الإسلامی: الأقلیات المسلمة فی العالم: ظروفها المعاصرة، آلامها، آمالها (الریاض: الندوة العالمیة للشباب الإسلامی؛ المجلد الثانی 1986)، ص 949: 948.
David Chidester: Religions of South Africa (London: Routledge, 1992), p 151:168
[16] ـ إبراهیم نصر الدین،محاضرات فی مشکلات سیاسیة فی العالم الإسلامی (القاهرة: معهد الدراسات الإسلامیة،1981)،ص 43: 46، ولمزید حول الإسلام فی شرق أفریقیا انظر: د. عبدالرحمن زکی، الإسلام والمسلمون فی شرق أفریقیا (القاهرة: مطبعة یوسف ،1965) سبنسر ترمجهام: الإسلام فی شرق أفریقیا، ترجمة محمد عاطف النواوی (القاهرة: مکتبة الأنجلو المصریة، ط 1، 1973).
[17] ـ تتصاعد تلک الدعوات من آن لآخر فی البلدان ذات الأقلیات الإسلامیة مثل تنزانیا، کینیا،رواندا، إثیوبیا، أوغندا، لیبریا، سیرالیون، إثیوبیا، جنوب أفریقیا على اختلاف بین تلک الدول فی أسباب تصاعد تلک الدعوات وبواعثها، انظر على سبیل المثال: الممارسات القمعیة ضد المسلمین فی بعض البلدان سالفة البیان فی:
ــ عبد الفتاح إسماعیل، «زنجبار: إمبراطوریة القرنقل» ،مجلة منار الإسلام، (أبو ظبی: وزارة العدل والشؤون الإسلامیة والأوقاف، العدد الخامس،مارس 1982)، ص 44: 61.
ــ حسین المحسی،»رواندا ذات الألف هضبة وهضبة»، منار الإسلام (العدد 11، سبتمبر 1981)، ص 73.
ــ محمد خمیلو: «دراسة عامة عن الأقلیة الإسلامیة فی لیبریا» ،فی الندوة العالمیة للشباب الإسلامی،مرجع سبق ذکره،ص 827.
ــ نجیب عبدالله: «المسلمون فی کینیا بین الماضی والحاضر»، فی جمعیة الدعوة الإسلامیة العالمیة ، مرجع سبق ذکره، ص 183: 187.
ــ سلیمان عزیز کروتا، «أوضاع المسلمین فی أوغندا»،فی جمعیة الدعوة الإسلامیة العالمیة، مرجع سبق ذکره، ص 162: 163.
ــ وراجع کذلک الأوراق المقدمة عن أوضاع المسلمین فی کل من إثیوبیا ورواندا فی نفس المرجع السابق، لا سیما الصفحات، 220: 228، ص 244: 261، ص 369: 371.
[18] ـ حول الجدل بشأن أثر الاستعمار على الشعوب الإسلامیة مع التطبیق على المستعمرات الفرنسیة انظر: محمد عاشور مهدی، «الاستعمار الفرنسی والهویة العربیة الإسلامیة: الدوافع ــ المراحل السمات والآثار»، فی جمعیة الدعوة الإسلامیة العالمیة، مرجع سبق ذکره، ص 136 : 142. ولمزید انظر:
A. Adu. Boahen: "Colonialism in Africa its Impact and Significant," ,in Boahen (ed), General history of Africa: Africa Under Colonial Domination 1880- 1935 (Unisco: 1985), p.785: 809 .
وانظر برؤیة خاصة لهذا الوضع: على مزروعی، «الدین والسیاسة: المسیحیة والإسلام فی الخبرة السیاسیة الأفریقیة»،ترجمة محمد عاشور، فی على مزروعی: قضایا فکریة: أفریقیا والإسلام والغرب. ترجمة صبحی قنصوه وآخرین (القاهرة: مرکز دراسات المستقبل الأفریقی، 1998) ص 102: 106.
[20] ـ محمد عاشور: الحدود السیاسیة، مرجع سبق ذکره، ص 217، ولمزید انظر صادق رشدی: أفریقیا والتنمیة المستعصیة: أی مستقبل؟ ترجمة مصطفى مجدی الجمالی (القاهرة: مرکز البحوث العربیة ، 1995).
[21] ـ إبراهیم نصر الدین: «مشکلة بناء الدولة فی أفریقیا» فی الهیئة العامة للکتاب: الجذور التاریخیة للمشکلات الأفریقیة المعاصرة (القاهرة: الهیئة العامة للکتاب ، 1995) ،عز الدین شکری: أزمة الدولة فی أفریقیا»، السیاسة الدولیة (القاهرة: الأهرام، عدد 110 اکتوبر 1992)،ص 59 .
[22] ـ محمد عاشور مهدی، «الحدود والقیود فی العلاقات العربیة والأفریقیة»،مجلة شؤون عربیة (القاهرة: جامعة الدول العربیة، عدد 98، یونیو 1999) ، ص 142: 157.وانظر أیضًا: د.خدیجة النبراوی، مرجع سبق ذکره، ص 170: 178.
[23] ـ المرجع السابق، ص 144. وراجع کذلک: تقریر التنمیة البشریة لعام 20000م، وکذا انظر الملحق الإحصائی فی:
African Development Bank:"African Development Report. (Oxford: Oxford University Press, 1999. .
[24] ـ دلیل التنمیة البشریة الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2000م. وانظر خدیجة النبراوی: مرجع سبق ذکره، ص 143: 157.
[25] ـ محمد عاشور، الحدود السیاسیة..،مرجع سبق ذکره، ص 227: 228.
[28] ـ عبد الله نجیب، «مشکلات المسلمین فی أفریقیا»، منبر الإسلام (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامیة،عدد 9، رمضان 1405هـ، یونیو 1985م)، ص 121: 122.
ولمزید حول المعتقدات التقلیدیة فی أفریقیا وعلاقتها بغیرها من الدیانات انظر الأعمال الواردة فی:
Jacob K. Oiupona (ed.), African Traditional Religions in Contemporary Society. (New York: Paragon House, 1991).
محمد عبد القادر أحمد: المسلمون فی غینیا (القاهرة: مطابع سجل العرب، 1986)،ص 108: 118
کوفی عبد الرحمن، «القادیانیة تغزو أفریقیا»،منار الإسلام (العدد 3، نوفمبر 1986).
[34] ـ مانع بن حماد الجهنی: «التنصیر فی أفریقیا: الأهداف والوسائل وسبل المواجهة»، البیان (لندن: النمتدى الإسلامی، عدد 153، أغسطس 2000م)، ص 58: 67.
ــ محمد عبد الأعلى، «المسلمون الجدد فی کینیا.. هلى یعودون إلى النصرانیة مرة أخرى بسبب الضغوط الکنسیة»، المستقبل الإسلامی (الریاض: الندوة العالمیة للشباب الإسلامی، عدد 82، مایو 1998م)، ص 10: 11.
ــ عبد الفتاح سعید، «مجلس الکنائس العالمی یوجه نشاطه نحو أفریقیا» ،منار الإسلام (عدد 9 أبریل 1988) ،ص 116: 121.
ــ عبدالفتاح سعید، «مجلس الکنائس العالمی یوجه نشاطه نحو أفریقیا»،منار الإسلام (عدد 9 أبریل 1988) ص 116: 121.
ــ عبد الفتاح سعید، «المسلمون فی السنغال یصارعون ضد تزییف هویتهم»، منار الإسلام (العدد 12، یونیو 1990) ص 39.
[35] ـ تتفق آراء هؤلاء الطلاب مع ما أوردته بعض الدراسات من تصاعد المطالبة بعض الأفارقة بالعودة إلى المعتقدات التقلیدیة والتخلی عن الدیانات (الوافدة) إلى القارة على اعتبار تلک الدیانات (لا سیما المسیحیة) کانت قرینة الاستعمار ، انظر:
Joseph Omosade Awolalu, "The Encounter Between African Traditional Religions and other Religions in Nigeria", in Awololu et al. (eds). ,op. cit. p 115: 116.
[36] ـ لمزید انظر الأعمال الواردة فی جمعیة الدعوة الإسلامیة، مرجع سبق ذکره.
[37] ـ جریدة المسلمون، 13/8/1993م، وانظر فی ذات الاتجاه:
ــ عبد الفتاح سعید، المسلمون فی السنغال، مرجع سبق ذکره، ص 39: 40.
ــ سلیمان حامد کارا، مرجع سبق ذکره، ص 120: 121.
ــ کونی عبد الرحمن، مرجع سبق ذکره، ص 81.
ــ عبدالفتاح سعید، مجلس الکنائس، مرجع سبق ذکره، ص 120.