یغلب استخدام حوار الأدیان، حوار الثقافات، حوار الحضارات، کمترادفات، إلا أن تأصیل الدراسات الحضاریة یقتضی التمییز بین المستویات الثلاثة وإن لم یکن بالإمکان الفصل بینها، حیث تتقاطع هذه المستویات بطریقة أو أخرى، انطلاقًا من تعدد تعریفات کل من الدین والثقافة والحضارة...
یغلب استخدام حوار الأدیان، حوار الثقافات، حوار الحضارات، کمترادفات، إلا أن تأصیل الدراسات الحضاریة یقتضی التمییز بین المستویات الثلاثة وإن لم یکن بالإمکان الفصل بینها، حیث تتقاطع هذه المستویات بطریقة أو أخرى، انطلاقًا من تعدد تعریفات کل من الدین والثقافة والحضارة.
ومن ثم فإن موضوعًا بعنوان: «البعد الثقافی فی المکوّن القیمی للحضارة» إنما ینطلق من مفهوم واسع للحضارة یتضمن البعد الثقافی باعتباره المکون القیمی للحضارة والذی یصبغها بصبغته، وقد تتعدد الثقافات الفرعیة فی حضارة واحدة ولکن یظل یجمعها رابط جمعی وسطی یمیزها جمیعًا على الرغم مما بها من تنویعات تحقیقًا لسنة الله فی تعدد الأقوام وتنوع الألوان والألسنة ولو فی نطاق أمة واحدة قامت على رابطة عقدیة فأضحت کیانًا حضاریًّا اجتماعیًّا، والأمة الإسلامیة خیر ممثل لهذه الصورة([1]).
الجدیر بالملاحظة أنه بعد أحداث الحادی عشر من سبتمبر، قفز الاهتمام بالقضایا والآلیات قفزة واضحة. حیث فرضت طبیعة تحدیات هذه المرحلة، على المؤسسات الرسمیة بصفة خاصة الانتقال بدرجة أکبر إلى هذه الجوانب العملیة؛ فلقد أضحت الضغوط نحو ضرورات ومتطلبات الحوار أکثر وضوحًا، لیس فی نظر الحکومات فقط ولکن بالنسبة أیضًا لبعض الروافد الفکریة التی کانت ترفضه أو تتحفظ علیه.
وفی الوقت نفسه الذی استمر فیه الجدل بین الاتجاهات الفکریة والسیاسیة حول جدوى الحوار وشروطه، فإن الواقع المحیط کان یفرض تحدیاته على هذا الجدال؛ حیث برزت بقوة إشکالیة العلاقة بین السیاسی والثقافی (الحضاری- الدینی).
فقد بینت السیاسات الأمریکیة تجاه العالم الإسلامی – فی إطار الحرب الأمریکیة على الإرهاب - کیف أن أدوات القوة العسکریة والاقتصادیة کانت تلعب دورها الصدامی وذلک فی وقت لم تکف الأصوات الغربیة عن دعوة المسلمین للحوار تحت مبررات عدیدة.
ولذا ظل السؤال الحائر: ما الذی یمکن أن یتحقق للمسلمین من وراء الحوار الذی تسارع الجمیع لتدشینه؟ بعبارة أخرى لم یعد السؤال دائرًا لتکییف نمط العلاقة القائمة بین حوار أم صراع؟ ولکن أضحى السؤال، بعد أن کشفت الوقائع بذاتها عن نمط السیاسات الصراعیة الأمریکیة، هل للحوار الذی تسوِّقه بالأساس مؤسسات وهیئات غربیة هل له مصداقیة؟
بعبارة أخرى، فی ظل سیاق إقلیمی وعالمی متدهور، طُرح السؤال بقوة عن مصداقیة الحدیث عن حوار حضاری أو حوار بین الحضارات أو الثقافات أو الأدیان، فی الوقت نفسه الذی تتصاعد فیه لغة القوة العسکریة الغاشمة، سواء من جانب الولایات المتحدة أو إسرائیل ضد عالم المسلمین.
ومن هنا، وعلى ضوء المقابلة بین زخم الوقائع والأحداث والتطورات على ساحة عالم المسلمین، والتی تنضح جمیعها بالأدلة على الصراع الذی یدیره الغرب مع عالم المسلمین من ناحیة، وبین زخم المؤتمرات والملتقیات العالمیة والإقلیمیة والوطنیة المتواترة والتی تنضح بخطابات المتجادلین حول جدوى إدارة حوار فعال ودوافعه من ناحیة أخرى، برز السؤال التالی: ألم تقدم خبرات الأعوام الثلاثة على الحادی عشر من سبتمبر الدلالات الکافیة حول ما إذا کانت الحالة القائمة من العلاقات بین عالم المسلمین وعالم الغرب هی حالة صراع حضاری أم صراع مصالح؟ وحول ما إذا کان الحوار مازال ممکنًا أو ما زال قادرًا على أن یساهم بفاعلیة فی إدارة معضلات هذه العلاقات فی بدایة القرن الواحد والعشرین؟
ولذا؛ فإن خبرات الملتقیات الحواریة، والمؤتمرات العلمیة التی شارکتُ فیها طیلة أربع سنوات (2002- 2006) قد أفرزت اتجاهات أکثر تفصیلاً عن فلسفة الحوارات وأهدافها ومشاکل إدارتها على الجانب العربی، على النحو الذی یضع مصداقیة الحوار على المحک، کما طُرِح للاختبار مدى کون الحوار قضیة سیاسیة بالدرجة الأولى وإن کانت ذات أبعاد ثقافیة تستدعی الدین. ولذا کان مطروحًا بقوة السؤال عن درجة العداء للإسلام وتأثیرها على آفاق الحوار باعتبار هذا العداء مسألة سیاسیة بقدر ما هی معرفیة وفکریة فی آن واحد، وتنوعت الاتجاهات حول القضیة([2]).
ومن ناحیة ثالثة: اتجاهات حول إمکانیة الحوار بعد بروز أعمال العداء ضد الإسلام وتکرار أعمال «العنف باسم الإسلام» ومن ثم حول عواقب تسییس الأبعاد الدینیة والثقافیة فی العلاقات بین الغرب والعالم الإسلامی.
لقد صعد هذا السؤال بوضوح على ضوء مغزى أزمة الرسوم الدنمارکیة. ولقد سبق وتردد هذا السؤال وصعد الاهتمام بمناقشته مع عدد من الأزمات المتفجرة على التوالی؛ وهی نوعان: النوع الأول - من الدول الغربیة تجاه العالم الإسلامی وبأدوات القوة الصلدة أساسًا، ومن أهمها: العدوان الإسرائیلی المستمر منذ مارس 2002 على السلطة الفلسطینیة والشعب الفلسطینی، العدوان الأمریکی على أفغانستان وتداعیاته منذ أکتوبر 2001، العدوان على العراق، التدخلات الدولیة فی الأزمة اللبنانیة منذ مقتل الحریری وصدور القرار 1559، الملف النووی الإیرانی، التدخلات الدولیة فی دارفور. هذا إلى جانب أدوات التدخل بالقوة المرنة (تجدید الخطاب الدینی، التربیة المدنیة، تطویر التعلیم، تحدیث الشباب والمرأة.. ، فی الوقت نفسه الذی لم تنقطع فیه أعمال الهجوم المعرفی – الفکری وفی الإعلام ضد الإسلام والمسلمین. ولم تکن الرسوم الدنمارکیة إلا بمثابة قمة جبل الثلج العائم.
والنوع الثانی یأتی من قوى مارست أعمال العنف باسم الإسلام أو اتُهم فیها مسلمون ابتداءً من تفجیرات مدرید 9/3/2004، ثم تفجیرات لندن فی 7/7/2005، وعنف ضواحی باریس (2005)، وقبل ذلک تفجیرات بالی فی إندونیسیا (2003)، تفجیرات طابا (2004) شرم الشیخ فی یولیو 2005، ودهب (أبریل 2006)، تفجیرات الأردن (2005)، تفجیرات المغرب (2004)، تفجیرات السعودیة، وتفجیرات فی ترکیا وتونس وفی الأرجنتین وبومبای. ویتضح من اتساع هذه الخریطة – داخل العالم الإسلامی وخارجه - کیف أن تعقّد الأمور منذ 2001، قد تزاید ولم ینته، کما کانت ترجو الحملة الأمریکیة ضد الإرهاب، وکما یرجو الداعون إلى الحوارات.
وبین النوعین ظلت جهود فکریة ومدنیة على الجانبین تسعى لإعلاء صوت الحوار والدعوة للعدالة قبل السلام. وفی الوقت نفسه، لم تستطع الجهود الرسمیة الوطنیة والإقلیمیة (العربیة والإسلامیة) أن تحقق التنسیق الفاعل بینها فی مجال الحوارات على نحو یحدث اختراقًا فی المجتمعات الغربیة، یناظر ما حققته نظائرها الغربیة فی مجتمعاتنا، مثلاً: تأسیس مؤسسة آنالیند لحوار الثقافات الأورومتوسطیة تجسیدًا للبعد الثقافی للشراکة الأورومتوسطیة([3]) فی مقابل جمود دور مفوضیة حوار الحضارات على صعید الجامعة العربیة، واستمرار تناثر جهود المؤسسات الإسلامیة الوطنیة منها والإقلیمیة وعبر الإقلیمیة.
وکانت ردود الفعل تجاه الرسوم الدنمارکیة – فی الخطابات العربیة والإسلامیة - ذات دلالات واضحة حول مدى الشرخ الذی أصاب صورة الحوار على الساحة العربیة والإسلامیة.
وقد أوضحت ردود الفعل تجاه أزمة الرسوم الدنمارکیة فی الخطابات العربیة والإسلامیة مدى الشرخ الذی أصاب صورة الحوار على الساحتین العربیة والإسلامیة. وقد أدت الأزمة إلى تراجع رموز إسلامیة داعمة للحوار وممارسة له عن دعمها أمام وطأة التسییس والإهانة. من ناحیة أخرى، اجتمعت رموز من تیارات مختلفة قومیة ولیبرالیة وإسلامیة - بشکل غیر مسبوق – على إدانة الغطرسة الأوروبیة وحق حریة التعبیر بلا ضوابط أو مسؤولیة، وفقًا للنمط اللیبرالی الغربی المزعوم.
إن الأزمة التی فجرتها الرسوم الکاریکاتیریة المسیئة للرسول - علیه الصلاة والسلام - کانت أزمة غیر مسبوقة، نظرًا لطبیعة تطورات الحدث الذی فجرها وردود الفعل تجاهها، واتساع نطاق تداعیاتها، وتعدد القضایا محل الاهتمام وتداخلها، وتعدد الفواعل الرسمیة والمدنیة والشعبیة التی تحرکت.
وهکذا، وفی حین کان یتصاعد معدل الإساءة للإسلام والمسلمین بصور متعددة، نجد أن مسلسل تجریم معاداة السامیة – أو بالأحرى إسرائیل([4]) تتوالى حلقاته بصورة متزایدة.
لقد أکدت أزمة الرسوم الدنمارکیة سمة المعاییر المزدوجة للسیاسات الغربیة بعد أن اختبرت أسس الرؤیة التی تنبنی علیها: الصراع، العنصریة والمادیة. وهناک فی الغرب ذاته تیارات فکریة نقدیة تحذر من مخاطر أزمة الحضارة الغربیة، والتی تتولد من داخلها. ولذا، وحیث تنتقد رؤى حضاریة إسلامیة نقائص هذه الحضارة الغربیة فإن بعضها یؤکد أن هذه الأزمة لا یمکن حلها فقط من داخلها، خاصة بعد أن وصلت إلى مرحلة متطرفة من الاستعلاء وإنکار الحضارات والثقافات الأخرى. ولذا، فهی فی حاجة إلى مراجعة تنظر إلى ما تقدمه نماذج حضاریة أخرى، مثل النموذج الإسلامی، من قیم الاجتماع والعمران البشری العادل والمتکافئ([5]).
إن الأزمة الدنمارکیة ومسار تطورها دعا الکثیرین – ومنهم رموز لیبرالیة وقومیة ویساریة ولیس فقط رموزًا إسلامیة - إلى التحذیر من محاولة بعض التیارات فی الغرب فرض منظومة قیم ثقافیة ورؤى للعالم تجافی خصوصیتنا الثقافیة أو فرض مفهوم حریة التعبیر، کما تفهمه العلمانیة الغربیة.
کما حذرت من مؤشرات العمد والقصد فی الإساءة للإسلام والمسلمین فی هذه الأزمة. ولعل من أوضح الأدلة على ذلک «رفض الاعتذار» أو «الاعتذار المشروط» أو التلاعب بالأعذار أو تأکید حیویة «حریة التعبیر» وتسریب مبررات حول عدم إمکانیة تشریع دولی لتجریم ازدراء الأدیان بحجة عدم إمکانیة منع من یرید انتقاد الأدیان.
وعلى ضوء ما سبق یمکن القول – وبعد متابعة تطور وقائع السیاسة وتفاعلاتها على الساحة الإسلامیة الدولیة والداخلیة، وتطور الجدالات النظریة والفکریة والمعرفیة على ساحة العلاقة بین «الإسلام والغرب» منذ نهایة الحرب الباردة – إن خطابات صراع الحضارات والنهایات (الدین، الأیدیولوجیا، التاریخ) لیست مجرد مبررات ثقافیة ودینیة تستخدمها السیاسات الأمریکیة والأوروبیة فی نطاق ما یسمى الحرب على الإرهاب. بل لقد أصبحت إحدى المصالح الاستراتیجیة العلیا للغرب هی إعادة تشکیل عقل المسلمین وفکرهم وفرض قیم ثقافیة ومعرفیة فی محاولة للتصدی للإسلام المقاوم والممانع.
ولهذا یجب – عند تقییم نتائج الحوار – ألا نقتصر على لوم أنفسنا بالتقصیر فی أداء ما علینا من واجبات. فقد آن الأوان لأن نضع الآخر أمام مسئولیته أیضًا، ونلفت نظره إلى تزاید عنصریته والإساءات المتعمدة المقصودة ضد الإسلام والمسلمین.
بعبارة أخرى، آن الأوان لاستراتیجیة هجومیة ولیست دفاعیة فقط، وللمطالبة بتقنین أسس ومتطلبات الحوار العادل المتکافئ. إن سیل المبادرات الرسمیة والمدنیة، التی أخذت تتوالى خلال الأزمة الدنمارکیة وما بعدها وحتى الآن، لم تکن تهدف إلى منع تکرار ما حدث، ولکن إلى مجرد رأب الصدع الذی وقع مع «المسلمین المعتدلین». فلقد تبین کیف کان توحد النخبة مع العامة واضحًا وکیف انتقدت بشدة نخب عربیة، تؤمن بالحوار وتمارسه، ما حدث من الدنمارک وحلفائها فی أوروبا، واعتبرته تطرفًا ووقاحة دبلوماسیة ومؤامرة أوروبیة.
إن القراءة فی أحداث وخطابات وتفاعلات الأزمة ساعدت على بیان أن الحوار المطلوب مستقبلاً – لیکون عادلاً ومتکافئًا – یجب أن یرتکز على التقنین الدولی لتجریم تعمد ازدراء أو تحقیر الإسلام والمسلمین، بقدر ما تم من تجریم معاداة السامیة. إن ازدراء وتحقیر المسلمین واتهامهم بما لیس فیهم لم یعد من قبیل الجهل أو حریة التعبیر، ولکنه توظیف سیاسی لتکریس اتهام مسلمی الغرب بعدم الاندماج، ومسلمی العالم بتهدید الاستقرار والسلم. وبذلک، یتم تبریر کل أنماط السیاسات العدوانیة والتدخلیة ضدهم، سواء لأسباب سیاسیة أو دینیة.
خاتمة القول: إن «حالة» الجدالات بین خطابات الحوار وخطابات الصراع عبر ما یزید عن العقد من الزمان هی «حالة» واضحة المعالم تتنازع على صعیدها الحجج الثقافیة مع نظائرها السیاسیة، کما أن المتابعة المقارنة بین الوقائع الإقلیمیة والعالمیة والخطابات الفکریة توضح درجة تسییس دعوات الحوار الآتیة من الغرب، کما توضح من ناحیة أخرى درجة تسییس أزمات الحوار أو فلنقل جولات «الصراع» التی توظف فیها بعض فئات «الغرب» السیاسیة والفکریة الأطروحات الحضاریة - الثقافیة - الدینیة (الصراعیة) لأهداف سیاسیة. ومع استمرار وضوح هذا التسییس على هذین المستویین یصبح السؤال التالی مشروعًا: ما جدوى الحوار إذن؟ على اعتبار أن الحوار لیس مجرد أداة من أدوات السیاسات الخارجیة ولکن هو بالأساس استراتیجیة وتعبیر عن رؤیة معرفیة ذات تأثیرات متعددة المستویات، وخاصة المستویات المدنیة والشعبیة. ویظل المحک مرة أخرى لیس هو مدى فاعلیة الدوائر المدنیة والشعبیة «العربیة والإسلامیة» فی جهودها الحواریة، ولکن المحک هو مدى استجابة الدوائر المدنیة والشعبیة «فی الغرب» مع هذه الجهود، وخاصة وأن تلک الأخیرة لا تقارن بنظائرها الصراعیة من جانب دوائر العداء للإسلام والمسلمین، سواء فی مجال الفکر أو الإعلام أو السیاسة. ولذا، وبعد اتضاح درجة التسییس فی توظیف الحوار أو الصراع – الحضاری - فإنه لیس فقط مقبولاً الآن الاعتذار، بالجهل بالإسلام - کذریعة لتوجیه الاتهامات للإسلام أو لإهانة وتحقیر رموزه. وعلى القطاعات المدنیة والشعبیة والفکریة فی «الغرب» أن تدرک قدر الأزمة التی استحکمت حول علاقات الشعوب العربیة الإسلامیة، على نحو یفرض علیها جهودًا متزایدة لخدمة العدالة ولیس الحدیث عن السلام.
کما على القطاعات المدنیة والشعبیة والفکریة فی «الشرق» أن تدرک قدر الجهد اللازم بذله لإحیاء وتجدید ثقافة المقاومة جنبًا إلى جنب مع ثقافة التعارف – ولا أقول السلام. ولعل الدلالات الحضاریة - فی اشتباکها مع دلالات سیاسات القوى للعدوان الإسرائیلی على لبنان - تزید الرؤیة وضوحًا عن مَنْ یکره مَنْ ولماذا؟ ومَنْ یقود صراعًا حضاریّاً وهو یدّعی العمل من أجل الحریة وحقوق الإنسان...
کل هذه المشاهد تستدعی قراءة حضاریة مرکبة ولابد وأن تقدم مزیدًا من الدلالات حول مغزى جدالات الحوار/ الصراع وإشکالیات العلاقة بین الحضاری - السیاسی فی المرحلة الراهنة من تطور وضع الأمة الإسلامیة فی النظام الدولی. وهی مرحلة تسطر لها الآن المقاومة الإسلامیة فی لبنان وفی غزة وفی کل مکان سمات جدیدة نأمل أن یتم استثمارها فی مزید من إحیاء قدرات الأمة وثقة شعوبها بأنفسها وبإمکانات التصدی لمؤامرة الهیمنة والسیطرة الأمریکیة الصهیونیة، سواء بأدوات المقاومة العسکریة (ما یسمیه د. المسیرى: الحوار العسکری) أو بأدوات الحوار النقدی ولیس حوار الاستسلام.
کذلک فإن الأمر یتطلب تضافر جهود الجمیع الآن، وتوزیع الأدوار فیما بینهم وفق رؤیة استراتیجیة تنظر للحوار بین الأدیان والثقافات باعتباره قضیة سیاسیة وأداة من أدوات إدارة الصراع ولیس بدیلاً عنه، ومن ثم تحتاج المبادرة به وإدارته وعیاً کاملاً بالسیاق السیاسی المحیط والأهداف السیاسیة لأطرافه، وکل هذا دون التخلی عن الحوار کاستراتیجیة ومبدأ فی الأساس.
فإن الحوار النقدی یمکن أن یکون سندًا للحوار العسکری لأن الحوار - باعتباره نمطًا من أنماط العلاقات الحضاریة - لیس غایة فی حد ذاته، کما أن له سیاق دولی یبرز الحاجة إلیه أو یواریه فضلاً عن الشروط اللازمة لتحقیق أهدافه. ومن ثم فإن قبوله کنمط من أنماط التفاعل هو قبول مشروط یجب ألا یعنی موقفًا اعتذاریّاً دفاعیّاً فی مواجهة اتهامات الغرب أو فی مواجهة سیاساتهم الصراعیة، حفاظًا على البقاء أو درءًا للأخطار، واستعواضًا عن الضعف المادی، ولکن یجب أن یکون الحوار انطلاقًا من ذاتیة ثوابت الأمة، ومن قضایاها وتعبیرًا عن مجرد آلیة بین آلیات أخرى تستجیب لمتغیرات السیاسة. وکذلک شریطة أن یکون مقرونًا فی المرحلة الراهنة بالوعی بالأبعاد الصراعیة فی دواعی الطرف الآخر، حتى ولو کانت مغلفة بخطابات الحوار، ومقرونًا بالوعی بحقیقة أثر توازنات القوى على تحدید قضایا الحوار، وغایاته، ونتائجه. وشریطة أن تتوافر له شروط الحوار السوی والفاعل وعلى رأسها الحوار البینی المسبق على المستوى الرسمی والفکری، وأخیرًا شریطة ألا تنتقل ضغوط الواقع على الرسمیین إلى النخب والمفکرین. فهم مطالبون بالحوار، لأنه من بین أسالیب جهاد العصر ولیس اعتذار العصر.
ولا یکون الحوار أحد سبل جهاد العصر إلا من خلال تحری نموذج المقاصد الشرعیة، وقیم الاستخلاف والتزکیة والعمران والتعارف. هو جهاد فی العصر یتحدث عن المقاومة والعدالة فی مقابل لغة السلام التی یتحدث بها الداعون إلى الحوار من الدائرة الغربیة. فإن السلام لا یتحقق بالحوار إذا کانت العدالة مفقودة وإذا ماتت المقاومة. بعبارة أخرى فإن ثقافة الحوار – لدینا - یجب أن تنطلق من مفهوم العدالة کغایة وحتى لا یکون ثمن السلام هو الاستسلام، أو الاعتذار أو الدفاع عن براءة الذات الحضاریة. إن هذه الرؤیة عن الحوار إنما تنبثق عن رؤیة معرفیة وفکریة عن «تغییر العالم». وهذا هو موضوع الجزء الثانی من الدراسة.
ثانیًا: نحو تفعیل الحوار بین الثقافات من أجل تغییر عالمی: رؤیة تعارفیة إنسانیة:
النظام العالمی المعاصر، منذ نهایة الحرب الباردة، تتنازع تفسیر حالته ومناخه العام رؤیتان: تلک التی ترکز على ما تفرزه تجلیات العولمة من قوى الانسجام والترابط بین أرجاء العالم، والأخرى التی تبرز قدر التباین فی ظل العولمة([6]).
وإذا کان الحوار فی نظر البعض سبیلاً لزیادة الانسجام على حساب التباین، إلا أن آثار التسییس السابق شرحها قد بینت أن التباین یزداد تکرسًا فی ظل خطابات وسیاسات الهیمنة الغربیة الحضاریة على العالم برمته ولیس العالم الإسلامی فقط، مما ولد مشروعات مقاومة متعددة المصادر والتوجهات والأدوات منها المشروع الصینی، لدرجة دفعت البعض إلى وصف القرن الواحد والعشرین بقرن آسیا، ومنها المشروع الإیرانی، والمشروع اللاتینی، والمشروع الإسلامی. وأنا هنا لا أتحدث عن مجرد قوى صاعدة منافسة للقوة الأمریکیة وحلیفتها القوة الأوروبیة، ولا أتحدث عن حضارات متقابلة ولکن أتحدث عن مشروعات متقابلة تنظر لمستقبل العالم برؤى متنوعة انطلاقًا من تنوع الرؤى للعالم التی یستند إلیها کل مشروع وفی صمیم کل من هذه الرؤى ماهیّة الثقافة والهویة مجدولة بالاعتبارات السیاسیة والاقتصادیة.
وفیما یتصل بالمشروع الإسلامی بصفة خاصة، (استجابة لما انطلقت منه الدراسة أی دائرة انتمائی الثقافی والحضاری أی العربیة الإسلامیة) وما یتصل بحواره مع المشروع الحضاری الغربی فی ظل اختلال توازن القوة المادیة بین حاملی کل من المشروعین، یمکن القول أن المشروع الحضاری الإسلامی لیس بمفرده الذی یواجه أزمة تدعی الحداثة الغربیة منذ أکثر من قرن قدرتها على حل هذه الأزمة إذا ما تم الاندماج کاملاً فی مشروعها، إلا أن المشروع الحضاری الغربی (الحداثی الوضعی العلمانی) یواجه بدوره أزمة وإن اختلفت فی النوع والطبیعة. فإن الرکن الرکین من أرکان هذا المشروع: الدیموقراطیة اللیبرالیة الرأسمالیة إنما تمر بأزمة تنعکس على أزمة المجتمعات الحداثیة وعلى أزمة فی النظام العالمی برمته. وهی أزمات تدور حولها مراجعات معرفیة وفکریة ونظریة مهمة فی الغرب ذاته([7]).
فلماذا لا تکون هذه الأزمات بدورها مجالاً للحوار حیث إن هذه الأزمات تنعکس على أزمات الدوائر الحضاریة المختلفة وعلى رأسها دائرة الحضارة الإسلامیة؟ ولماذا تبدو الحوارات قاصرة على أزمات المسلمین وعلى نحو یبدو معهم «الآخر» مقدمًا النصح أو فارضًا الحل؟
ومن أهم الاتجاهات التی تشارک فی هذه المراجعات اتجاهات البنائیة الجدیدة والنقدیة التی تهتم بدور الأفکار والتصورات والمعتقدات فی تشکیل العلاقات الدولیة، وتنطلق من نقد الهیمنة الحضاریة المدعاة من الغرب. ولکن شارکت هذه الاتجاهات مع اتجاهات أخرى لیبرالیة وواقعیة فی الدعوة إلى الدیموقراطیة العالمیة کسبیل لدرجة أکبر من الاستقرار والسلام.
إن هذه المحاولة لتحقیق الدیموقراطیة على المستوى العالمی لیست بجدیدة وهی لیست منتجًا من منتجات العولمة فقط، ومن ثم فإن الحوار بین الثقافات حولها ذو جذور سابقة. وما یهمنا هنا هو أن الحوار حول الدیموقراطیة العالمیة هو حوار أیضًا حول منظومة القیم الدیموقراطیة المطلوب عولمتها والفلسفة التی تنبنی علیها. فهل من الجدوى الاستمرار فی هذا النمط من الحوار کسبیل من سبل علاج قصور الحوارات السابقة أم یجب الانتقال إلى مجال آخر أکثر فاعلیة؟
إن رصد الجدالات بین الاتجاهات الفکریة والنظریة فی الغرب، حول الدیموقراطیة العالمیة لتبین الآتی([8]): إن هناک عدم توافق على المفهوم ناهیک عن التساؤل هل هی «دیموقراطیة عالمیة حقّاً»؛ حیث یتضح أن المقصود هو الدیموقراطیة اللیبرالیة الرأسمالیة النابعة من الخبرة الحضاریة الغربیة.
ومن ثم فیبدو الحوار البینی – الغربی هو استجابة لأزمة الدیموقراطیات الغربیة أساسًا تحت تداعیات التحولات العالمیة وآثارها الداخلیة، وفی محاولة لدعم نشرها باعتبارها الوجه الآخر للسلام اللازم فرضه ولو بالقوة القهریة، ولذا فغیر الغربیین – وخاصة المسلمین - غیر موجودین فی خریطة هذا الاتجاه اللیبرالی إلا بقدر کوننا موضوعات ومفعول بنا لأننا غیر دیموقراطیین، بل نحن معرضون للحروب باسم الدیموقراطیة من أجل أن تصبح عالمیة؛ حیث إن غایة هذه الدیموقراطیة کما یرى اللیبرالیون منع الحروب وتحقیق السلام.
هذا وتستبطن هذه النتائج التی تسفر عن رصد الجدالات حول «الدیموقراطیة العالمیة» مجموعة من الثنائیات (الداخلی /الخارجی، الحروب /السلام، الشعوب/الدول، إجراءات الدیموقراطیة/فلسفتها...).
وفی المقابل فإن منظورًا حضاریّاً من مرجعیة إسلامیة یساعد على تجاوز هذه الثنائیات تحقیقًا لدرجة أکبر من الانسجام والتناسق والتوافق ولیس التناقض والصراع والتنافر الذی تنضح به الثنائیات المشار إلیها عالیًا، والتی لن تجعل من الدیموقراطیة العالمیة – فی ظل أوضاع القوى العالمیة الراهنة تحت هیمنة أحادیة حضاریة – إلا مجرد ثوب جدید لنفس الجسد.
کذلک فإن الاتجاهات البنائیة تقدم رؤیة أکثر نقدیة للمنظور التقلیدی للعلاقات الدولیة، الذی یستهدف الحفاظ على نظام الهیمنة الدولیة القائمة ومن ثم فهو أکثر انفتاحًا وتعددیة یتساءل عن دیموقراطیة کونیة ولیس مجرد دیموقراطیة لیبرالیة عالمیة، ذلک لأنه ینشغل بمشاکل الشعوب الناجمة عن العولمة الاقتصادیة والاجتماعیة.
وإذا کانت هذه الجدالات بین روافد الفکر الغربی هی جدالات حول فلسفة الدیموقراطیة ومنظومة قیمها وغایاتها العالمیة إلا أن عالم الإسلام، وعالم الدین بصفة عامة، غائب بدرجة کبیرة عنها. فکیف نستطیع من مرجعیة إسلامیة تأخذ الإسلام کمصدر للقیم والمبادئ اللازم تفعیلها لخدمة منظومة الإنسانیة، أن نقدم رؤیة لا تخلط بین المقاصد والأدوات؟ فإن المقصد هو التغییر العالمی الذی یحقق العدالة الإنسانیة.
إن من أهم شروط تفعیل الحوار بین الحضارة الغربیة والإسلامیة، من منطلق البعد الثقافی أن یتصدى إلى أجندة قضایا جدیدة لا تنغلق فی قضایا محاکمة الإسلام أو التشکیک فیه أو تنغلق فی قضایا ترویج منظومات قیم الغرب ولکن تمتد إلى أجندة إنسانیة شاملة، یمکن أن یشارک فیها الجمیع من منطلق دوائرهم الثقافیة.
فإذا کانت بعض مستویات الحوار بین الغرب والعالم الإسلامی قد دارت بین رجال دین وعلماء یهتمون بدور الأدیان وبین علمانیین أو حتى ملحدین حول قضایا إسلامیة وما لها من ارتباطات مع أوضاع مجتمعیة وسیاسیة واقتصادیة (الإسلام والمرأة، الإسلام والأقلیات، الإسلام والعنف، الإسلام والجهاد والإرهاب، الإسلام والتسامح والسلام)، وإذا کانت مستویات أخرى من الحوار ترى الاتجاهات الفکریة الیساریة أنها یجب أن تقتصر على قضایا الاستعمار والهیمنة والعدالة التوزیعیة للثروات، أی حول أبعاد العلاقة بین الشمال والجنوب بصفة عامة. فإن اتجاهات ثالثة، وهی اللیبرالیة، ترى أن الحوارات هی وسیلة للمشارکة فی دراسة وحل مشاکل الإنسانیة کلها ولکن من خلال نقل الحداثة والاندماج فی النظام العالمی([9]).
وإذا کانت اتجاهات أخرى تقول بأن أحد أهم شروط تفعیل الحوار بین الحضارات هو تأسیس الحوارات البینیة على صعید الحضارة الإسلامیة بین شعوبها ودولها حیث تبرز الحاجة مثلاً إلى حوارات عربیة - إیرانیة، وعربیة ترکیة، وعربیة کردیة، وعربیة أمازیغیة، ناهیک عن حوارات المذاهب (الشیعة والسنة) والأدیان (المسلمون والمسیحیون) فی الشرق([10]). کذلک هناک الحاجة إلى حوارات بین الحضارات الشرقیة ذاتها، حیث توالت على سبیل المثال ملتقیات الحوار الإسلامی الیابانی والعربی – الصینی، کذلک جرت بعض جولات الحوار العربی اللاتینی([11]).
ففی المقابل، وفى الوقت الذی تتعثر فیه الحوارات سواء البینیة أو بین الغرب والعالم الإسلامی، تبرز الأصوات الداعیة إلى توسیع دائرة الحوار الإسلامی- المسیحی (عالمیّاً وإقلیمیّاً) لتزداد استیعابًا لمشارکة الیهود. وهو الأمر الذی یولد استجابات وردود فعل عدیدة، على ضوء ما تتعرض له القضیة الفلسطینیة من عدوان مستمر ومتصاعد وعلى ضوء تسییس الحوارات التی یشارک فیها الیهود لتصبح غطاء لمساندة السیاسات الإسرائیلیة ومدخلاً مرنًا للتطبیع.
إن هذه الاتجاهات الخمسة التی تتنازع الحوارات فی النظام العالمی المعاصر، إنما تعوق فعالیتها عدید من الأسباب، لعل الجزء الأول من الدراسة یکون قد اقترب من بعضها وأهمها، ألا وهو التوظیف السیاسی فی ظل اختلال توازن القوة العالمیة.
ومن هنا لابد وأن نتصدى لإعادة صیاغة أجندات الحوارات (على الأقل التی شهدها العقد الماضی) حتى لا نظل أسرى الدفاع أو الاعتذار من جانب مسلمین أو أسرى التصحیح والإرشاد أو التعالی والاتهام والتشکیک من جانب غربیین، لنقدم خطابًا بنائیّاً إنسانیّاً من أجل إصلاح الإنسان کجوهر للتغییر العالمی.
إذن کیف نستطیع أن نشارک فی هذا الحوار؟
لقد تعددت الرؤى من جانب علماء مسلمین عن إمکانیة بل وضرورة مشارکة رؤى إسلامیة فی «إصلاح العالم»، وأقتصر هنا على ذکر النماذج التالیة: حامد ربیع، منى أبو الفضل ([12]).
وتعالج هذه الرؤى إشکالیتین مترابطتین محل الاهتمام، ألا وهما حاجة العالم لنموذج إسلامی یساهم فی التجدید الفکری والمجتمعی العالمی من ناحیة، وأن التجدید الفکری والمعرفی على مستوى الأمة وانطلاقًا من مرجعیتها وأسسها الحضاریة هو شرط ضروری لتجدید قواها ویصب أیضًا فی استقرار وسلام العالم من ناحیة أخرى. وتوضح هاتان الإشکالیتان أنه بقدر ما یستطیع الإسلام من وجهة نظر هذه النماذج أن یقدم للعالم بقدر ما یجب من باب أولى أن یجری حل مشاکل أمته انطلاقًا من أسسه الحضاریة الثابتة، وعلى ضوء نموذجه فی التعارف والتواصل انطلاقًا من سنة التعدد والتنوع واستنادًا إلى کونه نموذجًا مفتوحًا ولیس مغلقًا. بعبارة أخرى، وانطلاقًا من طبیعة الإسلام «الوسطیة» وأنه دعوة للعالمین، وانطلاقًا - من ناحیة أخرى - من الخبرات التاریخیة للأمة الإسلامیة سواء فی وقت القوة أو فی وقت الضعف، یمکن القول إنه لا انفصال بین ما یقدمه الإسلام للمسلمین وبین ما یقدمه للعالم.
ومن ثم فإن کل ما یسعى المسلمون لطرحه على العالم – ولیس الغرب وحده - هو فی واقع الأمر منتج لقناعة بأن الإسلام لدیه ما یقدمه للإنسانیة من قیم وأفکار، وأن ما یقدمه الإسلام للإنسانیة لا یمکن استیعابه إلا من خلال عملیة نقد ذاتی لأوضاع المسلمین، عملیة من النهضة وإعادة الإحیاء؛ إعادة إحیاء الرؤیة الإسلامیة للعالم فی فهم ووعی المسلمین قبل غیرهم ربما تکون قادرة على تجاوز ما یرصده المسلمون فی هذا العالم من إفلاس أخلاقی وروحانی وإفراط فی العنف والطغیان وفی التعریفات المادیة للقوة على نحو یجعل من قوة المسلمین قوة مهمشة فی العالم([13]). فنحن فعلیّا أمام حرکة ثنائیة من نقد الذات ونقد منتج الحداثة والرؤى المادیة الوضعیة للعالم.
«فـقضیة إصلاح النظام العالمی وکیفیة مشارکة المسلمین فیه، سواء من الدول الإسلامیة أو من المسلمین فی الغرب، هی مشارکة تفترض أن یدیر المسلمون فی کل مکان إشکالیتین أساسیتین متصلتین بالإدراک المتبادل بینهم وبین غیر المسلمین، ألا وهما: أن المسلمین جزءٌ من العالم وفی قلبه لا یمکنهم الانعزال عنه، بل وعلیهم دور کبیر تجاه الإنسانیة ولیس تجاه المسلمین فقط، وإن کان هذا الدور یقتضی فی البدایة إصلاح أحوال المسلمین»([14]).
إن الحدیث عن تقبل الآخر واستیعاب التعددیة الحضاریة وإفساح الطریق أمام إسهامات الدوائر المهمشة هو حدیث له رونق، ولکن الفکرة على الرغم من لباقتها تستلزم أساسًا أن یکون الآخر قادرًا على المشارکة – لدیه الرغبة ولدیه القدرة على المشارکة - والرغبة والقدرة ترتبطان بالفرد ذاته کما ترتبطان بالنظام السیاسی الذی ینتمی إلیه وما یتیحه له هذا النظام من قنوات للتمکین، وإلا أصبحت مجرد نموذج آخر من نماذج علاقات الهیمنة والتبعیة ولو فی شکل أکثر «أناقة»، أو فلنقل أکثر شرعیة.
اقترابنا من قضیة التغیر العالمی أو الإصلاح العالمی من رؤیة إسلامیة ونحو عدالة إنسانیة:
هناک جهود متنوعة أخرى حول إسهام الإسلام فی التأصیل لعدد من المفاهیم، أو حول نقد المنظومة اللیبرالیة عن الدیموقراطیة. وجمیعها لا تستدعی «إجراءات أو مؤسسات بقدر ما تستدعی أطر القیم والواجب الاستناد إلیها للإصلاح.
ومن نماذج هذه الجهود – دون إدعاء تقدیم مسح شامل لها - النماذج التالیة: د.هبة رؤوف حول نقد الدیموقراطیة اللیبرالیة الرأسمالیة، د.مصطفى کمال باشا حول العلاقة بین الدیموقراطیة والإسلام، جوناتان موسز حول مفهوم الأمة – دیموقراطیة، إرماندو سلفادوری حول مفهوم المصلحة، ود.عبد الحمید أبو سلیمان عن إسهام قیم الإسلام فی العالم، ود.إسماعیل الفاروقی عن شکل النظام العالمی، ود.سیف الدین عبد الفتاح حول «المقاصد العلیا»، ود.سهیل عنایة حول المستقبلیات.
إذا کان بناء الدیموقراطیة العالمیة قد استدعى أسس معرفیة وفلسفیة لیبرالیة حددت من یشارک ولماذا وکیف و...، على نحو افتقد القیم والدین، کما افتقد مفهوم «الآخر الحضاری»، فإن مفهوم إصلاح العالم من رؤیة إسلامیة یستدعی المشارکة فی بناء القیم وتفعیلها على أکثر من مستوى وعلى نحو یبرز «وسطیة الإسلام» لإرساء أسس جماعیة للتغییر ولیس فرض هیمنة أحادیة.
ویتجلى ذلک فی منظومة الأبعاد الأربعة التالیة لرؤیة إسلامیة حضاریة:
أولاً - محرکات ودوافع الإصلاح والتغییر: منظومة الدعوة – القوة – الجهاد.
فإن الدعوة هی عملیة ممتدة جهادیة تتعلق بالفرد والأمة، بالداخل والخارج، بالسلم والحرب، فإن الرؤیة العقدیة القائمة على قیمة التوحید والتی تحمل رؤى فرعیة ومتکاملة حول الإنسان والکون والحیاة، فی سیاق مفاهیم مثل الأمانة والتکلیف والعمارة والاستخلاف، لا تکون بتأسیس العلاقة ضمن حالة استثنائیة وهی الحرب، أو حالة السلم المؤدیة إلى فعل الاسترخاء وعدم الفاعلیة والقعود عن معانی الأمانة والرسالة والخیریة. إن السلم الکامل والحرب الدائمة والشاملة لیست سوى أشکال وأسالیب حدیّة على متصل تتفاوت علیه الأشکال([15]).
والقوة حقیقة استخلافیة تحرک الفعل الحضاری العمرانی فهی لیست قوة طغیان ولکن عمران، وهی لا تعنی الوهن والهوان بل هی فعل مأمور به (نموذج الانتفاضة الفلسطینیة، والمقاومة حزب الله فی لبنان).
ولذا فإن هذا المفهوم للقوة قد یفرض إعادة تعریف مفهوم السیاسة ذاته بحیث یصبح القیام على الأمر بما یصلحه وتکون القوة هنا عناصر إصلاح وعمران، والسیاسة بناء لعمران - ولیس کما فی المفهوم الغربی توازن واستقرار فی ظل تکریس الواقع. والعمران نسق حضاری ومجال معرفی وفکری إسلامی یتخطى حدود الفقه التقلیدی ویتجاوزها فی رؤیته للعالم التی یستند إلیها، ولذا فهو یقدم بدیلاً حضاریّاً للتقسیم الفقهی التقلیدی للمعمورة إلى دار سلم ودار حرب.
والقوة لیست عناصر مادیة فقط، فعلى أهمیة هذه العناصر القصوى إلا أن هناک أیضًا عناصر معنویة تضفی على معانی القوة معانی الإرادة والإعداد والقدرة([16]).
ثانیًا- العلاقة بین دوائر الاجتماع البشری (الإنسان، الجماعة، الأمة، الدولة) العلاقة بین الفرد، الجماعة، الأمة، الدولة، العالم، هی علاقة ضم inclusion ولیس استبعاد دائرة على حساب أخرى. فجمیعها دوائر متحاضنة OverlappingCircles ویجسد هذا الضم وهذا التحاضن مفهوم الأمة بصفة عامة والأمة الإسلامیة بصفة خاصة([17]).
وعلى ضوء هذه الثلاثیة: الجماعة – الأمة – الدولة، فإن الرؤیة عن مصدر إصلاح «العالم» تتضمن عدة دوائر تتضافر فی تأثیراتها وهی کالآتی:
إصلاح الإنسان الفرد على ضوء میزان الحق والواجب، فحقوق الإنسان لیست مجرد حقوق ولکن ضرورات([18]). والوجه الآخر لها هو الواجبات والالتزامات، فلیس للفرد على الدولة أو الحکومة حق المحاسبة والرقابة والشفافیة فقط، ولکن ما هو واجبه لیستأهل هذه الحقوق. وهنا یقفز حالیّاً ما یسمى التربیة المدنیة وثقافة الدیموقراطیة وثقافة التعددیة، وجمیعها تعبیرات معاصرة لإعداد الإنسان لدوره الدیموقراطی أو لنقل الدور المجتمعی العام المشارک فی المجال العام. وهذا الإعداد لابد وأن یتم على ضوء میزان بین ما هو مدنی وما هو قیمی دینی ومیزان بین ما هو فردی ومجتمعی... کل ذلک انطلاقًا من مفهوم الإنسان وحقوقه فی الرؤیة الحضاریة الإسلامیة ([19]).
إصلاح الجماعة – الأمة /الدولة والنهوض بها (بین الدولة والأمة): إن أسباب ضعف الأمم والجماعات فی الرؤیة الإسلامیة إنما تنطلق من الأسباب القیمیة التی تنعکس على الأسباب المادیة، ومن ثم فإن النهوض والإصلاح والتجدید والإحیاء یبدأ أیضًا من هذه الدائرة القیمیة ممتدًا بالتفعیل إلى الدوائر الأخرى. کما أن إصلاح «الکلی» شرط لإصلاح الجزئی، فحال الأمة لابد وأن ینعکس على حال شعوبها ودولها کل على حدة.
کذلک فإن حال الجماعة لابد وأن ینعکس على الدولة التی تجسدها. ومن ثم فإن إشکالیة العلاقة بین الأمة / الدولة (أیهما أسبق على الآخر) تنعکس فی إشکالیة الإصلاح على هذا المستوى الجمعی، بقدر ما تتجسد أیضًا إشکالیة العلاقة بین المادی/القیمی.
والعوامل غیر المادیة احتلت مکانة أساسیة فی الرؤیة الإسلامیة عن تطور النظم التاریخیة وعن تفسیر التاریخ وذلک على عکس دراسات غربیة نظمیة سقطت فی أحادیة عوامل التفسیر المادیة أساسًا([20]).
ثالثًا- قدمت الحضارة الإسلامیة فی أصولها الإلهیة والنبویة وفی منتوجها الفکری والتاریخی جملة من المفاهیم الحضاریة الکبرى التی تنطلق من فقه حضاری متمیز له أصوله ومبادؤه ومفاهیمه ومسائله. ویمکن الإشارة إلى هذا الفقه وأصوله وإلى بعض مفاهیمه الکبرى وقیمه المعبرة، على النحو التالی:
- التدافع الحضاری - حوار الحضارات فی مقابل صدامها وصراعها.
- التداول الحضاری - الإنسان فی الرؤیة الحضاریة الإسلامیة.
رابعًا: الغایة حال العالم ومنظومة قیم تأسیسه (التوحید، التزکیة، العمران) ومنظومة معاییر إصلاحه: العدالة، الاستخلاف، العمران، المصلحة، المقاصد، الإنسانیة، جمیعها مفاهیم تأسیسیة فی الرؤیة القرآنیة عن العالم، وقد تم استحضارها بأکثر من سبیل وفی أکثر من سیاق، على نحو یصعب معه التوقف بالشرح عند کل منها. إلا أنه یمکن التوقف عند رؤیة جامعة لهذه المنظومة قدمها «خورشید أحمد»([21]) وتتلخص کالآتی:
تمثلت القوة الحقیقیة للحضارة الإسلامیة فی السعی فی آن واحد نحو التفوق القیمی والقوة المادیة، نحو الرخاء والأمن. واتسمت کل مراحل صعود وتوسع الحضارة الإسلامیة بهذه العملیة الدینامیکیة. وحین یختل هذا التوازن بین القیمی والمادی تُحدِث قوى الضعف والتفکک آثارها على نسیج المجتمع المسلم وتؤدی إلى سقوطه.
وشهد تاریخ المسلمین عبر 14 قرنًا مراحل صعود وسقوط، إلا أنه بعد کل تدهور سرعان ما کانت تظهر موجات من الإحیاء والتجدید تستجیب بقوة لتحدیات کل مرحلة.
من هذه الأبعاد الأربعة یتضح لنا ملمحین أساسیین وراء هذه المنظومة:
هذه المنظومة تنطبق داخل وخارج الحضارة الإسلامیة ولیس داخلها فقط.
الملمح الثانی؛ هو أن الغایة لیس أن یصبح کل العالم مسلمًا وفق رؤیة البعض عن تقسیم دار الحرب ودار السلم، فهذا التقسیم لم یکن إلا تقسیمًا سیاسیّاً فی مواجهة حالة صراع دولی ضد المسلمین. وکان ینظمه ویضع قواعده الرؤیة المعرفیة الأصلیة (الحضاریة التعارفیة).
ومن ثم فالتحدی أمام المسلمین هو أن یعرفوا کیف یعیشون فی العالم کمسلمین وکجزء مندمج فیه یأخذ ویعطی فی ظل سنن التداول. دون الوقوع فی الثنائیات التی تزخر بها خطابات «الدیموقراطیة العالمیة، ودون اختزال غایة الدیموقراطیة العالمیة فی منع الحرب فقط ودون اختزال محتوى الدیموقراطیة العالمیة فی إدارة العالم بطریقة دیموقراطیة لإیجاد حلول للمشاکل العالمیة یشارک فیها الجمیع، ولکن وفق فلسفة الدیموقراطیة الغربیة. فإن إصلاح العالم وتغییره یمکن أن تشارک فیه أمم العالم، کل من دائرتها الحضاریة، وفی ظل تعددیة حقیقیة تثری العالم فی إطار تعاونی سلمی.
إلا أن الأمر لا یقتصر على الحاجة إلى رؤیة وسطیة ولکن هناک حاجة أیضًا لتفعیلها فی إدارة أجندة عالمیة مشترکة تهم الإنسانیة بروافدها المتنوعة. کما هناک حاجة لبرامج وخطط عمل مشترکة ومؤسسات إنجاز تحقق تراکمًا یجعل مخرجات الحوار والتعاون مخرجات ملموسة ومحددة ولا تقتصر على «الکلمات». ولعلِّی هنا أستدعی کلمة د. مصطفى سیرتش فی مؤتمر جنیف 2009، السابق الإشارة إلیها فی أول مشهد فی تمهید الدراسة، فلقد بدأ کلمته بالحدیث عن آلام المسلمین ولکن انتهى بأجندة تهم الإنسانیة وهی البیئة والفقر والجوع.
فلا یمکن أن تظل ملتقیات الحوارات العامة، رغم أهمیتها، تدور فی حلقات مفرغة من الحدیث عن دوافع الحوار ومبررات وأهدافه وعن القیم الإنسانیة المشترکة وعن... فماذا عن التفعیل لیصب فی خدمة تغییر العالم لیصبح أکثر إنسانیة بالمعنى الحقیقی للإنسانیة ولیس بالمعنى الذی تختطفه کل مرجعیة من المرجعیات المتصادمة.
خلاصة القول فی هذه الدراسة، أن البعد الثقافی فی الحوار الحضاری وإن کان عاملاً أساسیّاً إلا أنه لا یعمل تأثیره فی فراغ. فهو وإن لم یکن حتمی التأثیر وعلى نحو محدد دائمًا، إلا أنه لا یمکن إسقاط مدلول تفاعله مع عوامل أخرى سیاسیة واقتصادیة.
فلیست الثقافة العربیة الإسلامیة ثقافة صماء، وإن کانت تتعرض لتأثیرات إلا أن التحدی الأساسی أمامها فی ظل الصراع الحضاری الموجه إلى شعوبها هو أن تحافظ على ثوابتها وتفرز استجاباتها للتحدیات وتضمن لها استمرار النمو والتفاعل مع الثقافات الأخرى مع الحفاظ على نواة خصوصیتها([22]). ومن هنا مغزى مقولة «ثقافة التغییر أم تغییر الثقافة»([23])، فإن ثقافتنا فی حاجة لثقافة التغییر حتى تستطیع المشارکة فی تجدید ثقافی عالمی هو مدخل أساسی لعلاج أزمة النظام العالمی المعاصر.
ومن ناحیة أخرى فإن الثقافة الغربیة ذات الجذور المسیحیة – الیهودیة، إنما تشهد تیارین هامشیین: أحدهما یسعى إلى تأکید هذه الجذور، کما اتضح خلال معرکة دستور الاتحاد الأوروبی([24]) واتجاه آخر یتحدث عن التعددیة فی مصادر هذه الثقافة على نحو یدخل فیها مصادر إسلامیة أیضًا([25]).
ناهیک عن الحدیث عن دور الإسلام وأثره کتهدید أو تحدٍ فی خلق الهویة الأوروبیة الحدیثة([26]). کل ذلک فی مقابل التیار السائد الذی یؤکد على أن هویة أوروبا هی منظومة القیم الحدیثة: المواطنة، الدیموقراطیة، حقوق الإنسان، الحریة...إلخ.
بعبارة أخرى فإن حدیث «الثقافات وموضعها من الحوار بین الحضارات فی نظام عالمی مختلف إنما یستنبط التباین والانسجام بین الثقافات المنتمیة إلى حضارة واحدة أو عدة حضارات وعوامل تحدید هذا التباین والانسجام، فهل مبعثها مثلاً الدین، أم التاریخ، أم السیاسة أم نمط عملیات التثاقف المستمرة أم...الخ.
وللإجابة على هذا السؤال أطرح سؤالاً وأستدعی واقعة: والسؤال هو: ألیس تعثر الحوار بین العالم الإسلامی والغرب مرده (الدینی – الثقافی) مجدولاً بالسیاسة والتاریخ، ولیس الدین فقط أو السیاسة أو المصالح فقط؟
أما الواقعة التی أستدعیها فهی تتصل بوضع البلقان المتباین الثقافات والأدیان والقومیات. فکما بدأت دراستی بمشهد عن الشیخ مصطفى سیرتش فأنا هنا أستدعی وقائع البلقان لأمرین: هل البلقان ینتمی إلى الحضارة الغربیة فقط، أم هو ما یسمى منطقة التماس بین حضارتین؟ هل ثقافات بعض شعوبه ثقافة غربیة أم ثقافة إسلامیة أم ثقافات تماس أیضًا؟ ومن ثم فهل هو فی حاجة فقط إلى حوار بین شعوبه وثقافاته کحوار بینی فی نطاق الحضارة الغربیة؟ أم هو بحکم تاریخ الإسلام فی البلقان (7 قرون) وبحکم واقع المسلمین فیه، هل هو جزء أیضًا من الحوار بین العالم الإسلامی والغرب، باعتباره جغرافیّاً جزءًا من أوروبا، القلب التاریخی للغرب، وباعتبار بعض أجزائه فی الوقت نفسه تمثل جزءًا من الأمة الإسلامیة (ذلک المفهوم العقدی الذی یجسد الرابطة العقدیة الحضاریة بین المسلمین أیّاً کان موطنهم وموقعهم فی العالم) بقدر ما یمثلون جزءًا من أوروبا.
إذن ألسنا فی الدائرة العربیة الإسلامیة فی حاجة أیضًا إلى حوار مع مسلمی البلقان أو أن یکون لمسلمی البلقان دور فی الحوار بیننا وبین الغرب الذین ینتمون إلیه جغرافیّاً وتاریخیّاً؟ فهم من شعوبه وإن کانوا أسلموا منذ قرون ومازالوا باقین على الرغم مما تعرضوا له عبر القرنین الماضیین من عملیات تصفیة، إلا أنهم مازالوا باقین لم یکرر معهم حتى الآن سیناریو «الاسترداد» فی الأندلس کاملاً. فإذا کان الغرب یأتی إلینا مبادرًا بالدعوة إلى الحوار معه أو إلى الحوار فیما بیننا کسبیل لحل مشاکل متعددة أو کغایة فی حد ذاته، وحول قضایا من قبیل حقوق الإنسان والمواطنة وثقافة السلام والتسامح وقبول الآخر، فهل استطاعت أوروبا والولایات المتحدة أن تدیر حوارًا مع مسلمی البلقان أو بینهم وبین غیرهم من القومیات والأدیان على أساس من العدل والتکافؤ، أم أن الحوار یشهد بدوره ما شهدته ساحات المعارک والحروب الدامیة ضد مسلمی البلقان عبر العقد الأخیر من القرن العشرین؟ وعلى نحو وصم أوروبا والغرب کله بأکبر مأساة إنسانیة فی نهایة القرن العشرین حیث تم انتهاک حقوق الإنسان بأبشع صورها وحیث تعرض قوم للإبادة الجماعیة لمجرد کونهم مسلمین عاشوا قرونًا على هذه الأرض.
بعبارة أخیرة هل نجحت حوارات الأدیان والثقافات فی بناء ثقافة تعارف وتواصل وثقافة عیش واحد وثقافة سلام عادل سواء فی البلقان أو فی أقالیم وأوطان أخرى فی العالم أو بین العالم الإسلامی والغرب؟([27]) سؤال أختم به الدراسة لأنه ستظل الإجابة علیه([28])هی المحک فی کل تناول مستقبلی عن أثر البعد الثقافی فی حوار الحضارات فی النظام العالمی المعاصر الذی یشهد تأزیمًا متکررًا عبر أرجائه نظرًا للتصادم بین قوى التباین وقوى الانسجام الناجم، لیس عن مجرد عدم تکافؤ فی القوة، ولکن الناجم عن التصادم بین رؤیتین معرفیتین؛ رؤیتان للعالم إحداهما صراعیة تجعل اختلاف الثقافات أو الأدیان مفسرًا أساسیّاً للصراع أو تدفع بثقافة القوی (مادیّاً) أن یهیمن بالقسر والإکراه مع إدعاء العالمیة، والرؤیة الأخرى تعارفیة إنسانیة ترتکن إلى مفهوم القوة أیضًا ولکن الذی یدافع عن حقوق الشعوب وینأى عن استراتیجیات الاستئصال للمخالف ویؤسس للعیش الواحد فتتحقق عالمیة حقیقیة. فلیس اختلاف الأدیان والثقافات فی حد ذاته سببًا فی صراع أو دافعًا لحوار، ولکن الأهم کیف تصبح هذه الاختلافات عاملاً فی ثراء التنوع والتعدد.
الهوامش:
* - باحثة مصریة، وأستاذة جامعیة.
[1] ـ انظر فی العلاقة بین الثقافة والحضارة والدین: فؤاد السعید، د. فوزی خلیل: الثقافة والحضارة، مقارنة بین الفکرین الغربی والإسلامی، (فی): نادیة مصطفى، منى أبو الفضل (محرران): مشروع التأصیل النظری للدراسات الحضاریة، جامعة القاهرة: کلیة الاقتصاد والعلوم السیاسیة، برنامج حوار الحضارات، دمشق: دار الفکر، 2008، الجزء الرابع. انظر أیضًا: أمانی غانم: البعد الثقافی فی العلاقات الدولیة، دراسة فی الخطاب حول صدام الحضارات، جامعة القاهرة: کلیة الاقتصاد والعلوم السیاسیة، برنامج الدراسات الحضاریة وحوار الثقافات، 2007. دنیس کوش، مفهوم الثقافة فی العلوم الاجتماعیة، ترجمة: د. منیر السعیدانی، بیروت، المنظمة العربیة للترجمة، 2007.
[2] ـ انظر على سبیل المثال:نادیةمصطفى،علاأبوزید (محرران): خبراتحوارالحضارات،مرجعسابق. نادیةمصطفى (محرر): مساراتمتنوعة ... مرجعسابق.نادیةمصطفى،علاأبوزید (محرران): خطاباتعربیة... مرجع سابق.
[3] ـ حول البعد الثقافی للمشارکة الأوروبیة المتوسطیة من رؤیة نقدیة تناقش العلاقة بین البعد السیاسی والبعد الثقافی انظر: د.نادیة محمود مصطفى: البعد الثقافی للمشارکة الأوروبیة المتوسطیة (فی): نادیة محمود مصطفى (إشراف علمی وتنسیق)، مراجعة: علیاء وجدی، أوروبا وإدارة حوار الثقافات الأورومتوسطیة، جامعة القاهرة: کلیة الاقتصاد والعلوم السیاسیة، برنامج حوار الحضارات، 2007.
[4] ـ نادیة محمود مصطفى (محرر)، معاداة السامیة بین الأیدیولوجیا والقانون والسیاسة، جامعة القاهرة: مرکز البحوث والدراسات السیاسیة، القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والترجمة والتوزیع، 2007.
[5] ـ د. نادیة محمود مصطفى: الرسوم الدنمارکیة وتداعیاتها- أزمة فی مسار حوار الأدیان والثقافات: قراءة فی مغزى العلاقة بین الثقافی/ السیاسی وشروط حوار عادل ومتکافئ، www.hewaronline.net.
[7] ـ David Held: Democracy and Global order, from the modern state to cosmopolitan Governance, Polity Press, 1997. pp 1-29
AntonyMcgrew: Democracy beyond Borders? (in) D. Held, A. Mcgrew (eds), The Global transformations Reader: an introduction to the Globalization debate, Polity Press, 2001, pp 405-420.
Nadia Mostafa, Beyond Western Paradigms of International Relations: Towards an Islamic Perspective on Global Democracy, A paper presented to Building Global Democracy Workshop, Cairo6-8 December 2009.
[9] ـ نادیة محمود مصطفى: إشکالیات الاقتراب من مفهوم حوار الحضارات فی أدبیات عربیة، (فی): حولیة أمتی فی العالم (2001- 2002) العدد الخامس، الجزء الأول، القاهرة: مرکز الحضارة للدراسات السیاسیة، 2003.
[10] ـ انظر على سبیل المثال: نادیة مصطفى، باکینام الشرقاوی (تنسیق وإشراف): إیران والعرب: المصالح القومیة وتدخلات الخارج (رؤى مصریة وإیرانیة)، تحریر ومراجعة: أسامة مجاهد، جامعة القاهرة: کلیة الاقتصاد والعلوم السیاسیة، مرکز الدراسات الحضاریة وحوار الثقافات، 2009.
- د. باکینام الشرقاوی، د. نادیة مصطفى (تنسیق وإشراف): ترکیا جسر بین حضارتین، تحریر ومراجعة: أسامة مجاهد، جامعة القاهرة: کلیة الاقتصاد والعلوم السیاسیة، مرکز الدراسات الحضاریة وحوار الثقافات، ومؤسسة أبانت للحوار بترکیا، (تحت الطبع).
- Nadia M. Mostafa, Pakinam El. Sharkawy (eds.): The Middle East After 9- 11: Turkish and Egyptian perspectives, center for political Research and Studies, Cairo University, 2005.
- The Third Seminar, Dialogue among Civilizations, The Islamic world and Japan, Tehran, Iran, Ministry of Foreign Affairs, Islamic Republic of Iran, 2004.
[12] ـ د.نادیة محمود مصطفى: ماذا یقدم الإسلام للعالم الحدیث، بحث مقدم لمؤتمر الإسلام والعلمانیة والحداثة، الذی نظمه مرکز الدراسات السیاسیة والاستراتیجیة فی الأهرام مع مؤسسة أبانت الترکیة للحوار، القاهرة، 2007.
Mona Abul-Fadl, Where East Meets West: The West on the Agenda of the Islamic Revival, Islamization of Knowledge series (No. 10), The International Institute of Islamic Thought, Herndon, Virginia, U.S.A, 1992.
[14] ـ من: نادیة محمود مصطفى، العلاقات الدولیة فی الفکر الإسلامی، مرجع سابق، انظر على سبیل المثال:
Nasser Ahmed Al – Braik: “Islam and World Order: Foundations and Values”, Ph. D, U.M.I., Dissertation Information Service, 1986.
Mona Abul Fadl: “Islamization as a Force of Global Renewal: the relevance of Tawhidi episteme to modernity, the American Journal of Islamic Social Sciences, Vo 2, 1988.
Farish A. Noor: What is the Victory of Islam? Towards a Different Understanding of the Ummah and Political Success in the Contemporary World, (in) Omid Safi (ed.), Progressive Muslims One world, Oxford 2003
د. نادیة محمود مصطفى: ماذا یقدم الإسلام للعالم الحدیث، مرجع سابق.
[15] ـ د.سیف الدین عبد الفتاح: مدخل القیم: إطار مرجعی لدراسة العلاقات الدولیة فی الإسلام، فی: مشروع العلاقات الدولیة فی الإسلام، المعهد العالمی للفکر الإسلامی، القاهرة، 1996 (الجزء الثانی).
[17] ـ د. منى أبو الفضل: الأمة القطب: نحو تأصیل منهاجی لمفهوم الأمة فی الإسلام، مکتبة الشروق الدولیة، الطبعة الأولى، 2005.
وانظر قراءة لأهم أبعاد تأصیل هذا المفهوم فی: د. نادیة محمود مصطفى، د. سیف الدین عبد الفتاح: مقدمة العدد الثانی من حولیة أمتی فی العالم (1999)، مرکز الحضارة للدراسات السیاسیة، 2000.
- د.أمانى صالح: توظیف المفاهیم الحضاریة فی التحلیل السیاسی: الأمة کمستوى للتحلیل فی العلاقات الدولیة، (فی) د.نادیة محمود مصطفى، د.منى أبو الفضل (محرران): مرجع سابق، الجزء الخامس.
[18] ـ د.محمد عمارة: حقوق الإنسان فی الإسلام ضرورات وواجبات، سلسلة عالم المعرفة (89)، الکویت، مایو 1985.
[19] ـ انظر بناء المفهوم فی: د. نادیة محمود مصطفى، د. سیف الدین عبد الفتاح وآخرین: منظومة مفاهیم نظم الحکم والعلاقات الدولیة فی الإسلام، (فی) د. أحمد فؤاد باشا وآخرین (محررون): موسوعة الحضارة الإسلامیة، فی: سلسلة الموسوعات الإسلامیة المتخصصة (4)، القاهرة: المجلس الأعلى للشئون الإسلامیة، وزارة الأوقاف، ج. م. ع، 2005، ص 397-496.
[20] ـ وحول نماذج توظیف التاریخ فی الدراسات الغربیة عن تغیر النظم الدولیة وحول خصائص هذا التوظیف من حیث درجة المرکزیة الأوروبیة ونمط العلاقة بین الأبعاد المادیة وغیر المادیة، وحول أبعاد المقارنة بین منظور إسلامی والمنظورات الأخرى التی وظفت التاریخ فی دراسة «التغیر الدولى» انظر:
- د. نادیة محمود مصطفى: أفکار حول إسهام التراث الخلدونی فی الفکر الدولی والنظریة الدولیة، (فی) أعمال المؤتمر الدولی الذی نظمته مکتبة الإسکندریة (دیسمبر 2006): «عالمیة ابن خلدون».
[21] ـ انظر بناء مجموعة هذه المفاهیم (فی) د. نادیة محمود مصطفى، د.سیف الدین عبدالفتاح: منظومة مفاهیم نظم الحکم والعلاقات الدولیة فی الإسلام، مرجع سابق.
[22] ـ نادیة مصطفى (إعداد وتقدیم)، خصائص الثقافة العربیة والإسلامیة فی ظل حوار الثقافات، مراجعة وتحریر: أسامة مجاهد، جامعة القاهرة: برنامج حوار الحضارات، دار السلام، 2006.
[23] ـ - نقلاً عن عنوان المؤتمر الذی نظمته مؤسسة الفکر العربی (بیروت) فی مراکش –المغرب، 2005..
[24] ـ انظر على سبیل المثال:د.عمروحمزاوی، ترابطات الهویة والدین فی أوروبا: بین حیادیة الدولة والحقوق الثقافیة والسیاسیة للأقلیات، فی: نادیة مصطفى (إشراف)، الهویة الإسلامیة فی أوروبا، مرجع سابق.
Frank R. Pfetsch, the European constitution, (in): Amr Hamzawy (ed.), European integration: lessons learned, center for European studies, CairoUniversity, 2006.
Ludger Kuhnhardt, constitutionalzingEurope: from national identities, (in): Ibid.
Lisa Kaul-Seidman, Jorgen S. Nielsen, Markus Vinzent, European identity and cultural pluralism: Judaism, Christianity, and Islam in European curricula, Herbert-Quandt-Stiftung, 2003.
Tomaz Mastank, Islam and the creation of European identity, Universityof Westminster, center for the study of democracy, research papers, no. 4, 1994.
[27] ـ نادیة مصطفى: إشکالیة القراءة فی مفهوم ثقافة السلام وخرائط إعادة بنائه من منظور حضاری، إسلام أون لاین. سمیة متولی، هشام سلیمان، اقترابات حل النزاعات وإحلال السلام، ورقة مقدمة لورشة عمل بعنوان «الخریطة المعرفیة لدراسات السلام» التی عقدت بمکتبة الإسکندریة فی الفترة (14، 15 دیسمبر 2008).
Hisham Soliman, THE POTENTIAL FOR PEACEBUILDING IN ISLAM: Toward an Islamic Concept of Peace, Journal of religion, conflict and peace, spring 2009, available on: http://www.plowsharesproject.org
سمیة متولی، ثقافة السلام، ورقة مقدمة إلى سمینار المعیدین بکلیة الاقتصاد والعلوم السیاسیة، جامعة القاهرة، 21 نوفمبر 2008.
[28] ـ انظر على سبیل المثال: محمد م. الأرناؤوط: خبرة البلقان فی صراع وحوار الأدیان، جریدة الغد الأردنیة، 2/7/2005، www.alghad.com. هانی صلاح: تیرانا تحتضن مؤتمر التسامح الدینی بالبلقان، إسلام أون لاین، 9/ 12/ 2004. کلاوس دامان، البلقان: الحوار أو الموت، ترجمة أحمد فاروق، إذاعة صوت ألمانیا، 25/ 2/2002، http://ar.quantara.com.