ثمة مقولات تعتبر محاور أساسیة لکل ما کتب عن حقوق الإنسان فی الإسلام. وعلى رأسها: مقولة الاستخلاف وتتضمن تشریف الإنسان وضرورة دفاع الإنسان عن حقوقه.ثم مقولة الکرامة الإنسانیة،وهی أیضًا مستوحاة من القرآن الکریم، وفیها تأکید على أمرین هما أصالة صفة الکرامة فی النوع الإنسانی، وأن هذه الصفة تشمل جمیع الناس بدون استثناء. والمقولة الثالثة هی الحقّ والحقوق، ومرجع هذه المقولة کتب الأخبار والحدیث فیما یتعلق بحقوق الله وحقوق عباده، أوالحقوق الطبیعیة والوضعیة. وفی هذاالمجال تعتبر رسالة الحقوق للإمام زین العابدین علی بن الحسین ذات أهمیة دینیة وأخلاقیة...
ثمة مقولات تعتبر محاور أساسیة لکل ما کتب عن حقوق الإنسان فی الإسلام. وعلى رأسها: مقولة الاستخلاف وتتضمن تشریف الإنسان وضرورة دفاع الإنسان عن حقوقه.ثم مقولة الکرامة الإنسانیة،وهی أیضًا مستوحاة من القرآن الکریم، وفیها تأکید على أمرین هما أصالة صفة الکرامة فی النوع الإنسانی، وأن هذه الصفة تشمل جمیع الناس بدون استثناء. والمقولة الثالثة هی الحقّ والحقوق، ومرجع هذه المقولة کتب الأخبار والحدیث فیما یتعلق بحقوق الله وحقوق عباده، أوالحقوق الطبیعیة والوضعیة. وفی هذاالمجال تعتبر رسالة الحقوق للإمام زین العابدین علی بن الحسین ذات أهمیة دینیة وأخلاقیة.
1 ـ المقولات المؤسسة
الکتابات التی حاولت التعرف على فکرة حقوق الإنسان فی الإسلام، استندت إلى جملة من المقولات الأساسیة، التی یمکن وصفها بالمقولات المؤسسة لفکرة حقوق الإنسان فی المجال الإسلامی، وهی المقولات التی رجع إلیها، وارتکز علیها معظم أو جمیع الذین حاولوا الکشف والتعرف على هذه الحقوق فی الإسلام، ولا یکاد یوجد بحث أو کتاب تحدث أو تطرق إلى هذه الحقوق، إلا واستند أو ارتکز على هذه المقولات کلها أو بعضها.
والبحث عن هذه المقولات المؤسسة لفکرة الحقوق فی التصور الإسلامی، یعد مبحثًا جدیدًا وحدیثًا فی المجال الإسلامی المتعلق بهذا الشأن، ولم أجد مثل هذا المبحث فی الدراسات والکتابات التی رجعت إلیها، أو التی تعرفت علیها.
ولا شک فی أهمیة وقیمة هذا المبحث، الذی یمثل مدخلاً وإطارًا معرفیًا ومنهجیًا لتکوین المعرفة بفکرة حقوق الإنسان فی الإسلام، وهو أفضل مدخل، وأضبط إطار لمثل هذه المعرفة، ولتحدید مدى تمایز وتقارب واختلاف هذه الفکرة عن غیرها من الأفکار الأخرى فی المذاهب الفکریة والاجتماعیة المغایرة.
والحدیث عن فکرة حقوق الإنسان والتعرف علیها فی المجال الإسلامی، لا یکتمل إلا بالعودة إلى هذه المقولات المؤسسة، ومحاولة فحصها وضبطها، وتعمیق المعرفة بها، والکشف عن علائقها وروابطها وتراتبها، وبقدر تعمق المعرفة بهذه المقولات الکبرى بقدر ما تتحدد وضعیة هذه الفکرة، وبقدر ما تتکشف أیضًا.
وبعد نظر وفحص وقدر من الاستقراء وجدت أن هذه المقولات المؤسسة تتحدد فی أربع مقولات أساسیة، وهی: مقولة الاستخلاف، ومقولة الکرامة الإنسانیة، ومقولة الحق والحقوق، ومقولة المقاصد.
2 -مقولة الاستخلاف فی الأرض
هذه المقولة کما هو واضح، مستنبطة من القرآن الکریم فی قوله تعالى ) وَإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلاَئِکَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِیفَةً( (1)، وقوله تعالى: )َهُوَ الَّذِی جَعَلَکُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ( (2).
وما کان من الممکن الحدیث عن هذه المقولة، بهذه الصورة البیانیة واللسانیة، لولا ورودها بهذا النص فی القرآن الکریم.
ومن هذا النص القرآنی تحددت رؤیة الإسلام الکلیة للإنسان ذاتًا ووجودًا ووظیفة، الرؤیة التی رفعت الإنسان إلى أعلى منزلة فی هذا الکون، ولیس هناک ما هو أعلى وأشرف من هذه المکانة التی یکون الإنسان فیها خلیفة الله فی الأرض.
وفی إطار هذه الرؤیة، وتحقیقًا لغایاتها ومقاصدها جاءت وتقررت فکرة حقوق الإنسان فی الإسلام، الحقوق التی تضمن وتصون شرف الإنسان وکرامته، وبما یلیق وخلافته فی الأرض.
وعن هذه المقولة وعلاقتها بفکرة حقوق الإنسان، یرى الشیخ راشد الغنوشی «أن حقوق الإنسان فی الإسلام، تنطلق من مبدأ اعتقادی أساسی، أن الإنسان یحمل فی ذاته تکریمًا إلهیًا، وأنه مستخلف عن الله عما فی الکون، الأمر الذی یخوله حقوقًا لا سلطان لأحد علیها»(3).
وقد تجلت هذه المقولة فی مفتتح دیباجة وثیقة حقوق الإنسان فی الإسلام التی أشرفت علیها منظمة المؤتمر الإسلامی، (نظمة التعاون الإسلامی) وجاء فیها: أن «الدول الأعضاء فی منظمة المؤتمر الإسلامی إیمانا منها بالله رب العالمین، الذی خلق الإنسان فی أحسن تقویم، وکرمه فجعله فی الأرض خلیفة ووکل إلیه عمارتها وإصلاحها».
والحکمة من هذه المقولة، تتحدد فی أمرین متلازمین هما:
الأمر الأول: إن الله سبحانه الذی شرف الإنسان بهذه المنزلة وجعله خلیفة فی الأرض، فهذا یعنی ضرورة المحافظة على هذه المنزلة، ومن أظهر تجلیاتها أن یحصل الإنسان على کامل حقوقه، ولا یجوز انتهاک هذه الحقوق أو الانتقاص منها.
الأمر الثانی: تقتضی هذه المنزلة أن یدافع الإنسان عن حقوقه، ولا یتخلى عنها أو عن قدر منها، لأن الله سبحانه أعطى الإنسان هذه المنزلة السامیة وعلیه أن یدافع عنها، ویسعى إلیها دومًا، وفی مقدمتها الحصول على حقوقه کاملة من دون انتقاص.
والجدیر بالإشارة، إن هذه المقولة أشار إلیها جمیع من تناول وتطرق لموضوع الإنسان فی القرآن، أو الإنسان فی الإسلام، قبل الباحث القانونی المصری عبد القادر عوده فی کتابه الإسلام وأوضاعنا السیاسیة، وبعده أیضًا، بمعنى أن هذه المقولة لا تبدأ تأسیسا من هذا الکتاب کما تصور الدکتور رضوان السید فی کتابه سیاسیات الإسلام المعاصر، مع ما لهذا الکتاب من لفتات فی هذا الشأن.
3 -مقولة الکرامة الإنسانیة
وردت هذه المقولة فی النص القرآنی فی قوله تعالى ) وَلَقَدْ کَرَّمْنَا بَنِی آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّیِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى کَثِیرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِیلاً((4).
وتعتبر هذه الآیة من أکثر الآیات القرآنیة تداولاً وحضورًا فی الکتابات الإسلامیة التی تناولت فکرة حقوق الإنسان، وذلک لشدة بیانها وقوة ظهورها فی الدلالة على المراد، ولا یکاد یوجد کتاب یتحدث عن حقوق الإنسان فی الإسلام، ولم یأت عن ذکرها.
فقد أصلت هذه الآیة لقاعدة، تعد أهم قاعدة مصدریة فی مجال حقوق الإنسان، وهی قاعدة أن الأصل فی الإنسان الکرامة، وأنها صفة ملازمة للإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن لونه وعرقه، لغته ولسانه، دینه ومذهبه، ولا یجوز سلب هذه الصفة وهتکها، أو تحقیرها والانتقاص منها، فالإنسان إنسان بکرامته، ومن دونها ینتقص الإنسان من إنسانیته، أی أن الإنسان کائن مکرم، ولا یکون إلا بکرامته.
والقرآن الکریم فی هذه الآیة کان بلیغًا للغایة، حین استعمل وصف بنی آدم عند حدیثه عن الکرامة، لیؤکد على أمرین متلازمین، على أن الکرامة هی صفة أصیلة فی النوع الإنسانی، وعلى أن هذه الصفة تشمل جمیع الناس بدون استثناء الذین یرجعون فی أصلهم الإنسانی إلى بنی آدم، ولیس هناک صنف من البشر خارج عن هذا الأصل الإنسانی المشترک.
والحکمة من هذا الوصف، أن الکرامة صفة سابقة على کل ما یظهر فی الإنسان لاحقًا من عوارض اللون أو اللسان أو الدین أو غیرها، وأن هذه العوارض مهما کانت طبیعتها لا تسلب الکرامة من الإنسان، ولا ینبغی أن تنتقص منها.
کما اعتبرت هذه الآیة أن الله سبحانه هو مصدر الکرامة للإنسان، وهو الذی فضّله على کثیر ممن خلق تفضیلاً، وهذا یعنی ضرورة أن یتمسک الإنسان بهذه الکرامة ولا یتخلى عنها أبدًا، تحت أی ظرف من الظروف، وأمام أی ضغط من الضغوط، وفی أی حال من الأحوال، لأنها من الله ولیس منّة من أحد کائنًا ما کان.
وهناک من وجد فی هذه الآیة، ترجیحًا لمفهوم الکرامة الإنسانیة على مفهوم حقوق الإنسان، وذلک عند الذین شککوا فی هذه التسمیة، واعتبروها تسمیة تنتمی إلى المجال الغربی، وأنها جاءت من هناک، وتداولت عند الغربیین أکثر من غیرهم، وهذه الرأی فی نظری لیس راجحًا، ولیس بمقدوره مزاحمة مفهوم حقوق الإنسان وإزاحته، والإحلال مکانه.
وأرى أننا لسنا بحاجة إلى هذه المزاحمة، أو هذه المفاضلة، فهناک حاجة ملحة لکلا هذین المفهومین، وبطریقة یعاضد فیها کل مفهوم المفهوم الآخر، وهما کذلک فی الأصل، فهما قریبان ومتحدان مع بعضهما، ولا یفترقان أو یتعارضان.
ووجه العلاقة بین هذین المفهومین، أن الکرامة الإنسانیة هی التی أوجبت حقوقًا للإنسان تحفظ له هذه الکرامة، لأنه مخلوق مکرم، ولأن الله سبحانه هو الذی کرمه وجعله من أفضل مخلوقاته.
ومن هذه الجهة، یرى الدکتور محمد عابد الجابری أن حقوق الإنسان فی الإسلام هی جمیع الأمور المادیة والمعنویة، التی تجب له بموجب تکریم الله له، وتفضیله إیاه على سائر خلقه(5).
وهذا التصور له أساس حتى فی الفکر الإنسانی القدیم والحدیث، حیث نرى أن الکرامة هی أصل وجوهر الحقوق للإنسان، وحین توقف الدکتور مصطفى الداماد أمام هذه القضیة شرحها بقوله: إن کرامة الإنسان التی هی أوضح مسألة ملازمة للإنسانیة، یمکن أن تعتمد بوصفها أهم أساس بدیهی لحقوق الإنسان، وهی مورد اتفاق جمیع البشر فی کل زمان ومکان، الأمر الذی تذعن له کافة الأدیان، فالکرامة أمر لا یمکن أن ینفک عن أی من الحیثیات والاعتبارات الإنسانیة الأخرى، وهو یحیط بخصائص کل فرد من أفراد الإنسانیة نفسها(6).
وقد تجلى هذا التصور بوضوح کبیر فی الإعلان العالمی لحقوق الإنسان، الذی اتخذ من الاقتران بین الکرامة والحقوق أساسًا وتأسیسًا له، ودلت على ذلک الإشارة التی وردت فی السطر الأول من دیباجة الإعلان، وفی المادة الأولى من مواد الإعلان.
ففی الدیباجة ورد ما نصه «لما کان الاعتراف بالکرامة المتأصلة فی جمیع أعضاء الأسرة البشریة، وبحقوقهم المتساویة الثابتة هو أساس الحریة والعدل والسلام فی العالم».
وجاء فی المادة الأولى من الإعلان ما نصه «یولد جمیع الناس أحرارًا متساوین فی الکرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضمیرًا وعلیهم أن یعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء».
وکانت للشیخ محمد علی التسخیری ملاحظة على مفهوم الکرامة الوارد فی هذه المادة، أشار إلیها فی المقارنة التی أجراها بین إعلانی حقوق الإنسان الإسلامی والعالمی، حیث فرق بین الکرامة الذاتیة، والکرامة المکتسبة التی هی أعلى درجة من الکرامة الأولى، معتبراً أن الإعلان العالمی أشار إلى الکرامة الذاتیة، ولم یتطرق إلى الکرامة المکتسبة، بخلاف الإعلان الإسلامی الذی التفت إلى هذا الجانب، وحسب رأیه الذی یشرح فیه ما یقصده بالکرامة الذاتیة والکرامة المکتسبة، یقول الشیخ التسخیری: إن الإعلان الإسلامی یفصل بحق بین أصل الکرامة أو الکرامة التی یحصل علیها الإنسان باعتبار انتمائه الإنسانی فقط، والکرامة المکتسبة التی ینالها الإنسان عبر سیره التکاملی المعنوی، وعمله الصالح فی خدمة الخلق، فإن أی وجدان یدرک الفرق بین عالم کبیر کابن سینا مثلاً، وفرد عادی یعیش لنفسه دون أن یترک أثراً، فی الحیاة(7).
ومن جهته یرى الدکتور محمد عبد الله دراز أن الکرامة التی یقررها الإسلام للشخصیة الإنسانیة، لیست کرامة مفردة، ولکنها کرامة مثلثة، کرامة هی عصمة وحمایة، وکرامة هی عزة وسیادة، وکرامة هی استحقاق وجدارة، الکرامة الأولى یستحقها الإنسان من طبیعته بموجب قوله تعالى:) وَلَقَدْ کَرَّمْنَا بَنِی آدَمَ ( (8)، والکرامة الثانیة تتغذى من عقیدته بموجب قوله تعالى:) وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِینَ ( (9)، والکرامة الثالثة یستوجبها بعمله وسیرته بموجب قوله تعالى:) وَلِکُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا( (10)، وقوله تعالى:) وَیُؤْتِ کُلَّ ذِی فَضْلٍ فَضْلَهُ( (11).
وفی نظر الدکتور دراز أن أوسع هذه الکرامات وأعمها وأقدمها وأدومها، تلک الکرامة الأولى التی ینالها الفرد منذ ولادته، بل منذ تکوینه جنینًا فی بطن أمه، فهی کرامة لم یؤد لها الفرد ثمنًا مادیًا ولا معنویًا، ولکنها منحة من السماء التی منحته فطرته، وجعلت کرامته وإنسانیته صنوین مقترنین فی شریعة الإسلام(12).
من هنا یتبین أن الکرامة الإنسانیة هی مقولة أصیلة فی التأسیس لفکرة حقوق الإنسان على المستویین الإسلامی والإنسانی.
4 -مقولة الحق والحقوق
وردت هذه المقولة بصیغتیها الحق والحقوق وتواترت بکثرة فی النص الدینی الإسلامی قرآنًا وسنة، وتحددت معنى ومضمونًا فی علمی الفقه الإسلامی وأصوله، وعدت من مقولات هذین الحقلین البارزین فی منظومة المعارف الإسلامیة.
وقد وجد الدارسون المسلمون أن تکوین المعرفة بفکرة حقوق الإنسان یستدعی النظر فی مقولة الحق والحقوق، وتحلیل هذه المقولة وضبط معناها، والإحاطة بحقلها الدلالی، والکشف عن منشأ هذه الحقوق ومصدرها ومنبعها، واعتبروا أن هذه الخطوة لابد منها لتأسیس فکرة حقوق الإنسان فی الإسلام، ولمعرفة کیف تختلف هذه الفکرة وتتمایز عن التصور الغربی وباقی التصورات الأخرى بناء على تحلیل هذه المقولة.
وهذه المقولة أعادت هؤلاء الدارسین إلى کتب الفقه وأصول الفقه القدیمة والحدیثة، التی جرت فیها أحادیث ونقاشات علمیة محکمة حول معنى الحق والحقوق، وتقسیمات لهذه الحقوق إلى ما یعرف بحقوق الله سبحانه وحقوق العباد، والعلاقة بین هذین النمطین من الحقوق، وطبیعة کل منهما، وأین یشترکان وأین یفترقان، وأیهما یتقدم على الآخر، ومتى یتقدم على الآخر إلى غیر ذلک.
وحین یعرف الأصولیون المنتسبون إلى علم أصول الفقه حق الله یقولون إجمالاً هو ما یتعلق به النفع العام من دون اختصاص بأحد من الناس دون آخر، وینسب هذا الحق إلى الله لعظمه، وشمول نفعه، ویقولون عن حق العبد هو ما یتعلق به مصلحة خاصة.
وهناک ما یجتمع فیه الحقان، ویکون حق الله غالب کحد القذف ویلحق بحقوق الله، وهناک ما یجتمع فیه الحقان، ویکون حق العبد غالب کالقصاص ویلحق بحقوق العبد.
وفی کتب الأخبار والحدیث هناک نصوص تطرقت إلى شکل من العلاقة بین حقوق الله وحقوق العباد، من هذه النصوص ما روی عن الإمام علی -علیه السلام- قوله: «جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدمة لحقوقه، فمن قام بحقوق عباد الله کان ذلک مؤدیاً إلى القیام بحقوق الله»(13).
ویتکون هذا النص الواضح والجلی، من ثلاثة عناصر مترابطة، هی:
العنصر الأول: تقریر أن الحقوق تنقسم إلى قسمین تعرف اصطلاحًا بحقوق الله وحقوق عباده.
العنصر الثانی: تقریر العلاقة المتلازمة بین هذین النمطین من الحقوق، العلاقة التی تتحدد فی أن حقوق العباد مقدمة لحقوق الله سبحانه، وطریق إلى هذه الحقوق.
العنصر الثالث: ضرورة الالتفات إلى حقوق العباد والعنایة والاهتمام بهذا النمط من الحقوق لکونها مقدمة ومؤدیة إلى القیام بحقوق الله سبحانه، والتأکید على هذا العنصر بالذات لأنه قد یغیب عن الأذهان، أو یساء فهمه ویلتبس عند البعض.
ومن هذه النصوص الدینیة أیضًا، الرسالة التی تنسب إلى الإمام علی بن الحسین -علیه السلام- وهی رسالة تتجلى من عنوانها حیث تعرف برسالة الحقوق، وجاءت متضمنة خمسون حقًا، تبدأ بحق الله سبحانه ثم حق الإنسان الذات والآخر.
وللأسف فإن هذه الرسالة على أهمیتها وقیمتها الدینیة والأخلاقیة والتاریخیة لم تحض بالعنایة والاهتمام عند المسلمین المعاصرین، ولا نکاد نجد لها ذکرًا وتنویهًا فی العدید من الکتابات والمؤلفات التی تعنى بشأن حقوق الإنسان.
وفی دراسات المسلمین المعاصرین هناک تقسیمات لمقولة الحقوق من أبعاد وزوایا مختلفة، یلحظ فیها تارة مصدر الحق، وتارة یلحظ فیها صاحب الحق، وتارة أخرى یلحظ فیها مورد الحق إلى غیر ذلک من حیثیات واعتبارات.
ومن هذه التقسیمات تقسیم الحقوق إلى طبیعیة ووضعیة، ویراد من الحقوق الطبیعیة تلک الحقوق الثابتة بذاتها للإنسان طبیعة وفطرة، ویراد من الحقوق الوضعیة تلک الحقوق التی وضعت وضعًا، فهناک واضع لها، وتکتسب شرعیتها من وضعها ولیس من ذاتها.
ومن هذه التقسیمات کذلک، تقسیم الحقوق إلى خاصة وعامة على أساس صاحب الحق، فالحقوق الخاصة ناظرة إلى صاحب الحق الفرد، والحقوق العامة ناظرة إلى صاحب الحق الجماعة أو المجتمع أو الأمة.
ومن جهة المورد والمجال، تقسم الحقوق إلى سیاسیة واقتصادیة واجتماعیة وغیرها، فحین یتعلق الحق مثلاً بالمشارکة فی الانتخابات یکون هذا الحق سیاسیًا، وإذا تعلق بالعمل کان اقتصادیًا، وإذا تعلق بالصحة والتعلیم کان اجتماعیاً.. إلى غیر ذلک من تقسیمات أخرى.
والشاهد من کل ذلک أن الباحثین المسلمین وجدوا فی مقولة الحق والحقوق والنقاشات العلمیة التی جرت حولها عند أهل الفقه والأصول والحقوق أنها تمثل مدخلاً مهمًا، ورافدًا حیویًا فی التأسیس لفکرة حقوق الإنسان فی الإسلام.
5 -مقولة المقاصد
أسس لهذه المقولة وعرف بها الفقیه الشاطبی إبراهیم بن موسى التی شرحها فی کتابه الشهیر الموافقات فی أصول الشریعة الصادر فی القرن الثامن الهجری، فی هذا الکتاب اعتبر الشاطبی أن «تکالیف الشریعة ترجع إلى حفظ مقاصدها فی الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام، أحدها أن تکون ضروریة، والثانی أن تکون حاجیة، والثالث أن تکون تحسینیة. فأما الضروریة فمعناها أنها لابد منها فی قیام مصالح الدین والدنیا... وأما الحاجیات فمعناها رفع الضیق المؤدی فی الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب... وأما التحسینات فمعناها الأخذ بما یلیق من محاسن العادات»(14).
والضروریات التی لابد منها حددها الشاطبی فی خمس عرفت بالضروریات الخمس، وهی حسب ترتیبه: حفظ الدین والنفس والنسل والمال والعقل، ونقل الشاطبی أنها مراعاة فی کل ملة.
مقولة المقاصد بهذه الرؤیة وجد فیها الدارسون المسلمون أنها تمثل إطارًا شرعیًا ناظمًا لفکرة حقوق الإنسان فی الإسلام، ومن ثم قاموا بربط فکرة الحقوق بنظریة المقاصد التی عدت لاحقًا أهم نظریة فی التأسیس لفکرة حقوق الإنسان فی الإسلام، ومن دون هذه النظریة ما کان الممکن صیاغة تأسیس متماسک لهذه الفکرة فی المجال الإسلامی، وبشکل یکون متمایزًا عن تأسیسات الآخرین المختلفین فکریًا واجتماعیًا.
وقد أظهر المسلمون تمسکًا واضحا بهذه المقولة، التی وجدوا فیها ضالتهم، وحظیت بقبول عام لدى المفکرین الإسلامیین حسب قول الشیخ راشد الغنوشی یصل عنده إلى ما یشبه الإجماع، وذلک لکونها تمثل أساسًا وإطارًا لنظریة الحقوق والحریات العامة والخاصة فی التصور الإسلامی، یتسع ویستوعب جلّ الحقوق المعروفة مثل حق الحیاة والحریة والتعلیم وإقامة الإسلام، وحق الملکیة، والمشارکة فی الحیاة العامة لإقامة نظام عادل یحفظها(15).
ویتضح هذا الموقف عند العودة إلى تصورات الدارسین المسلمین التی تکشف بوضوح کبیر عن مدى عنایتهم وتمسکهم بهذه المقولة، وطریقة تعاملهم معها بوصفها مقولة مرجعیة أساسیة فی هذا الشأن.
من هذه التصورات ما أشار إلیه الشیخ عبد الله بن بیه الذی یرى أن مقولة المقاصد هی تأصیل لنظرة متکاملة متوازنة لحقوق الإنسان، وتنطوی على صیانة سائر الحقوق الإنسانیة والسیاسیة والاقتصادیة، فالجانب الضروری من هذه المقاصد یترجم فی نظر الشیخ بن بیه بحق الحیاة، وحق التملک، وحق تکوین الأسرة، وحق التدین، وحق النسل، والمقصد الحاجی یترجم فی حق التعلیم والمسکن وغیرها من الحقوق التی ترفع مشقة الحیاة، وتؤمن الحیاة الکریمة، والمقصد التحسینی یرمی إلى منح الحیاة الجمال والمتعة والتمتع بالطیبات(16).
ومن جهته یرى الدکتور محمد الزحیلی أن مقاصد الشریعة هی المنطلق الحقیقی والأساسی لحقوق الإنسان، وأن الشرع الحنیف جاء أصلاً من أجل الإنسان وتحقیق مقاصده، والتطبیق الحقیقی لحقوق الإنسان یکمن فی التطبیق العملی للدین الحق(17).
ودل على ذلک أیضًا الکتاب المشترک الذی صدر عن سلسلة کتاب الأمة فی قطر سنة 2002م، بعنوان حقوق الإنسان فی الإسلام.. محور مقاصد الشریعة.
وبخلاف هذا المنحى کانت للدکتور رضوان السید وجهة نظر أخرى مختلفة ومغایرة، حیث یرى أن الإسلامیین المعاصرین لجأوا إلى مقاصد الشریعة لأغراض توظیفیة، وبطریقة مختلفة ومتراجعة عن الطریقة التی استخدمها الإصلاحیون قبلهم، وکانت تتوخى حسب قوله بناء منظومة إسلامیة لحقوق الإنسان متمایزة عن المنظومات الغربیة، وعن الإعلان العالمی لحقوق الإنسان، وذلک بربط مقولة المقاصد بفکرتی الاستخلاف والتکلیف لإثبات أن حقوق الإنسان فی الإسلام هی ضرورات أو واجبات ولیست مجرد حقوق.
وهذه الطریقة التوظیفیة لخلق التمایز لا مبرر لها فی نظر الدکتور السید لأن الشاطبی الذی استند إلیه الإسلامیون حسب قوله، قال عن المصالح الضروریة أنها مراعاة فی کل ملة، أی أن إدراکها ومراعاتها عامان وشاملان وضروریان للمصالح الإنسانیة، ولیس قصرًا على الدین الإسلامی(18).
مع ذلک فإن العودة إلى مقولة المقاصد کان ضروریًا ومفیدًا لبناء وتطویر نظریة إسلامیة فی مجال حقوق الإنسان.
هذه المقولات الأربع، هی المقولات المؤسسة لفکرة حقوق الإنسان فی الإسلام.
الهوامش
_____________________
1ـ سورة البقرة. آیة 30.
2ـ سورة فاطر. آیة 39.
3ـ راشد الغنوشی. الحریات العامة فی الدولة الإسلامیة، بیروت: مرکز دراسات الوحدة العربیة، 1993م، ص320.
4ـ سورة الإسراء. آیة 70.
5ـ محمد عابد الجابری. الدیمقراطیة وحقوق الإنسان، بیروت: مرکز دراسات الوحدة العربیة، 1994م، ص209.
6ـ مجموعة کتاب. حقوق الإنسان دراسة النص وتحدیات الواقع، بیروت: مرکز الحضارة لتنمیة الفکر الإسلامی، 2008م، ص136.
7ـ الشیخ محمد علی التسخیری. حقوق الإنسان بین الإعلانین الإسلامی والعالمی، بیروت: دار الثقلین، 1995م، ص68.
8ـ سورة الإسراء، آیة 70.
9ـ سورة المنافقون، آیة 8.
10ـ سورة الأنعام، آیة 132.
11ـ سورة هود، آیة 3.
12ـ محمد عبد الله دراز. دراسات إسلامیة فی العلاقات الدولیة والاجتماعیة، القاهرة: دار القلم، 2009م، ص119.
13ـ محمد الریشهری. میزان الحکمة، قم: دار الحدیث، 1422هـ، ج2، ص876.
14ـ إبراهیم بن موسى الشاطبی. الموافقات فی أصول الشریعة، بیروت: دار الکتاب العربی، 2002م، ج2، ص202.