النظر ة العلمیة إلى الماء فی التصور الإسلامی لم تنحصر فی مادته الأولیة للخلق والتکوین، بل تناولته فی جمیع المجالات بصورة تختلف عن تلک التصورات والظنون. فهی أقرب إلى التصور العلمی الرصین الذی یتجنب افتراضات المتفلسفین وغیبیات المیتافیزیقیین ویرفض میثولوجیا الأسطوریین، ویتضمن تحریک الحوافز النفسیة لمواصلة الإنتاج والعطاء عن طریق إحیاء الموات...
النظر ة العلمیة إلى الماء فی التصور الإسلامی لم تنحصر فی مادته الأولیة للخلق والتکوین، بل تناولته فی جمیع المجالات بصورة تختلف عن تلک التصورات والظنون. فهی أقرب إلى التصور العلمی الرصین الذی یتجنب افتراضات المتفلسفین وغیبیات المیتافیزیقیین ویرفض میثولوجیا الأسطوریین، ویتضمن تحریک الحوافز النفسیة لمواصلة الإنتاج والعطاء عن طریق إحیاء الموات.
فی عصر العلم الممتدّ إلى الغد، لم یهتد حتى الآن العلماء إلى رأی نهائی حاسم حول بدء الخلق، وإنما هی افتراضات وظنون انتهت إلیهم جمیعًا من أقوال من سبق، وحسبهم الیوم جمیعًا أن یورثوها من سوف یلحق..
بید أن الباحث الإسلامی الذی لا یأخذ بالظن، ولا یرجم بالغیب، یستخلص بکثیر من الاطمئنان أن الماء هو مادة الحیاة الأولیة، لجمیع الکائنات والأحیاء،کلّما رتل فی القرآن: ) وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء کُلَّ شَیْءٍ حَیٍّ (([1]). بل یوشک، إذا ما فکر فی هذه الآیة ملیًا أن یؤکّد من خلالها ویشهد، أنه ما کان للإنسان أن یولد، ولا لجمهرة الکائنات أن توجد،ولا للحیاة أن تستمر،ولا للحضارة أن تزدهر، لو غاض الماء فما جرى وشح المطر فما انهمر.
ولو تدبرنا القرآن وتلوناه بإمعان، لسحر منا القلوب والألباب، بوصفه المعجز الخلاب،للماء النمیر تموج قطراته وتنساب،ناعمة رخیة، وینبعث منها الخریر بنغماته العذاب، رقراقة ندیة، وإذا روعة التصویر تصاحب دقة التعبیر، وإذا عنصر الماء ینهل بین الأرض والسماء، فینبجس([2]) من الجماد والحجر، وینهمر من السحاب والمطر، ویملأ الغدیر والنهر، ویسقی النجم([3]) والشجر، ویخرج الحب والثمر، ویطلع الورد والزهر، ویحیی الدواب والبشر، وینفع البدو والحضر، وإذا الماء الدافق إکسیر کل الخلائق، وینبوع کل الحقائق.
فی قطرات من هذا الماء بث الله روح الحیاة، من بدء الخلق إلى منتهاه.وإذا کنا لا ندری عن نهایة العالم إلا ما أخبرنا به القرآن وأکده الحدیث المأثور من أشراط الساعة ویوم القیامة والبعث والنشور، لأنه غیب لا یعلمه إلا الله، فنحن أیضًا لا ندری عن بدایة العالم إلا ما أخبرنا به المعصوم وتلقاه من وحی الله،لأننا یوم بدء التکوین لم نکن حاضرین نشأة الأکوان ولا شاهدین خلق الإنسان) مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا کُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّینَ عَضُدًا( ([4]). ومع ذلک حثنا القرآن على سبر الأغوار، وتقصی الأسرار، لنعرف عن طریق البحث والنظر،وطول الرحلة والسفر، وتتبع النقش والأثر، ما نستطیع معرفته عن الصورة التی کان علیها الکون أول مرة: ) قُلْ سِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانظُرُوا کَیْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (([5]).
وإذا الماء غامر تلک الصورة الأولى غمرًا نحسبه غیبیًا خالصًا ولا ندرک ما فیه من دقة التعبیر الحسی عن موجود حقیقی قد کان قبل وجود الکون، فی قوله تعالى: ) وَهُوَ الَّذِی خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ وَکَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء(([6]). ولقد سأل الصحابة رسول الله عن هذه الآیة فأجابهم: «کان الله ولم یکن شیء معه،أولم یکن معه شیء غیره، وکان عرشه على الماء» ([7]). ووجد شارح العقیدة الطحاویة أن هذا الحدیث یحتاج إلى التفسیر والإیضاح، فعلق بقوله: «إن فی هذا الحدیث إشارة إلى حاضر موجود مشهود (وهو هذا الکون المرئی)، وقد أجابهم النبی عن هذا العالم الموجود لا عن جنس المخلوقات،وقد أخبرهم عن خلق السماوات والأرض، فظهر أن مقصوده إخباره إیاهم بیده السماوات والأرض وما بینهما، وهی المخلوقات فی ستة أیام، لا ابتداءُ وخلقُ ما خلقه الله قبل ذلک»([8]).
وعنایة القرآن بالماء، وإحاطته بهالة من التمجید، ربما ترتدّان إلى أن عرش الرحمان کان علیه عند بدء الخلق والتکوین. ونحن نکتفی الآن بهذه الملحظة العابرة، ونبادر إلى تسلیط الأضواء على بعض المراحل والأطوار، التی کان النصیب الأوفى خلالها للماء، فی کل مظاهر الإحیاء والإنماء، ومصادر الإنتاج والعطاء.
وإبرازًا لأهمیة الماء، وتأکیدًا لتحقق وجوده قبل خلق السماوات والأرض، قد نستأنس استطرادًا بما نص علیه سفر التکوین فی العهد القدیم من أن الله «فی البدء خلق السماوات والأرض، وکانت الأرض خربة وخالیة، وعلى وجه الغمر ظلام،وروح الله یرف على وجه الماء» ([9])، فیخیل إلینا للوهلة الأولى أن بدء الخلق فی التوراة یشبه بدء الخلق فی القرآن،ویفوتنا حینئذ ما فی التوراة من ثنائیة عنصریة لمادة الخلق الأولیة Dualisme تضمنها التنصیص على مزیج من الماء والظلماء، وننسى فی هذا السیاق أن لفظ «الغمر» أو «العمق» The Deep الوارد فی التوراة یرادف الکلمة البابلیة Tiamat ویذکرنا بأسطورة البالیین والسومریین التی افترضت فی البدایة أیضًا وجود الماء ولکنها افترضت فی الوقت نفسه أن الآلهة الخالقة ظهرت من ذلک الماء،وأن تلک الآلهة کونت الأرض من هذا الماء، وأن «مردوخ» الإله الخالق بزعمهم صنع السماوات والأرض من الدخان الصاعد من ذلک الماء([10]).
والحق أن تصویر القرآن لمادة الخلق الأولیة یختلف عن تلک التصورات والظنون، وأن تعبیره عن قضایا الخلق خال من الأوهام والأساطیر، وأن صیاغته المحکمة الموجزة التی لم تدخل فی الجزئیات ولم تخض فی التفصایل أقرب إلى التصور العلمی الرصین الذی یتجنب افتراضات «المتلفسفین» وغیبیات «المیتافیزیقیین» ویرفض «میثولوجیا» الأسطوریین.
وإن هذا لواضح جدًا فی مواطن کثیرة من القرآن، ولا سیما فی مطلع الآیة الناطقة بأن الماء هو مادة الکائنات الحیة کلها، لأن نص الآیة هو التالی: ) أَوَلَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ کَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء کُلَّ شَیْءٍ حَیٍّ( ([11]). ویستنبط من هذا أن الکون فی بدء الخلق کان وحدة متماسکة متصلة تکثرت الموجودات عنها فیما بعد حین انفصل بعضها عن بعض بالتدریج، إذ کانت فی البدایة مرتوقة رتقًا، ثم «انفتق» رتقها واتصالها.
ولعلنا نستنج من هذه «الومضة» القرآنیة المعجزة أن العوالم الکونیة المسماة فی القرآن )العالمین( لم تبلغ کمالها إلا بالتدریج، على رغم تشابه مادتها الأولیة، سواء أکانت«الماء» لکل الأحیاء، أم «الدخان» الذی تصاعد من الماء لجمیع أجرام السماء. ومن الطریف أن شارح العقیدة الطحاویة لما علق على قوله تعالى: )الحمد لله رب العالمین( فی فاتحة الکتاب،توقف عند کلمة «رب» لیلحظ فی معناها مفهوم التربیة، وهی کما قال: »تبلیغ الشیء کماله بالتدریج»([12]).
وعندما صرح القرآن بأن السماء کانت «دخانًا»،وأن الله «استوى إلیها» أی اتجهت إرادته إلى تکوینها وخلقها،فی قوله: ) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِیَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِیَا طَوْعًا أَوْ کَرْهًا قَالَتَا أَتَیْنَا طَائِعِینَ (([13])، استنتجنا أن إفراد السماء أولا یراد به جنسها،على حین أشیر ثانیًا بتعدادها «سبع سماوات إلى الأجرام السماویة کلها، ومنها ما علمنا عنه شیئًا، ومنها ما لم نعلم عنه أی شیء، وقد تکونت برمتها من الدخان ثم بلغت کمالها بالتدریج. ولا ندرک ما فی التعبیر «بالدخان» هنا من قیمة مادیة «محضة» إلا إذا تذکرنا أن من الافتراضات العلمیة التی ما تزال وجیهة «أنه فی أول تاریخ مجرتنا کانت هناک سحابة من غبار ذی ترکیب کونی یشبه السدیم»([14]).
وهذه الصیاغة المادیة لعناصر التکوین الأولیة توشک أن تکون علمیة «بحتة» إذا أصطلحنا اصطلاحًا على «فرزها» وإفرادها عما یخالطها من التعابیر الدینیة «الخالصة». ویرتفع وزنها العلمی ارتفاعًا ملحوظًا إذا تابعنا أبحاث العلماء المعاصرین الذین انتهوا فی هذا المجال «إلى أن الکواکب الابتدائیة قد تحوّلت إلى کواکب عادیة منذ حوالی 5000 ملیون سنة، وأن الفصل الکیمیائی بین أجرام الکواکب قد تمّ منذ 4500 ملیون سنة، وأن القشرة الخارجیة للأرض قد تکوّنت بصورة کاملة منذ 4000 ملیون سنة، وأن أقدم أثر للحیاة قد ظهر على وجه الأرض منذ 3000 ملیون سنة» ([15]).
والأرقام المذکورة فی أبحاث العلماء ودراساتهم لا تعنینا فی کثیر ولا قلیل عندما تؤخذ لذاتها، وتُقبل بِعُجَرها وبُجَرها. وإنما أشرنا إلیها استئناسًا واستطرادًا، لنکشف عن مدى التقارب بین منهج البحث العلمی وصیغة الوصف القرآنی لأولیة عنصر الماء فی تکوین الأحیاء، وأولیة عنصر الدخان «المتبخّر من الماء» فی تکوین أجرام السماء.
ومن الواضح فی هذه الآیات أن استمرار الماء فی التفجر والجریان والانهمار، فی العیون والآبار، والینابیع والأنهار، والسیول والأمطار، یرتبط بالظواهر الطبیعیة، ویفسر بالعلل الحقیقیة لا الوهمیة،کتراکم السحب واحتکاکها، وانطلاق الریاح وهبوبها، وقیظ الشمس وحرارتها، وتصاعد البخار من میاه البحار.
إن طولَ أُلفتنا للماء ینزل من السماء،وینبع من العیون، ویجری فی الأنهار، ویصب فی البحار، ویسقی النبات، ویخرج الثمار، ونشربه کلما کنا ظماء، ونحیی به الموات، ونضمن به مستقبل الغذاء، وننمی به وسائل الإنتاج، ونضاعف به أشکال التضیع والازدهار، إنّ طول أُلفتنا له فی جمیع هذه الأحوال لا یسمح لأکثرنا بالکشف عن کنهه وحقیقته، ومعرفة الظواهر الطبیعیة التی أدّت إلى وجوده، واستمراره، وتوافره فی الکون الذی نعیش فیه.ولکی ینقذنا القرآن من هذه الغفلة، وصف لنا کیف أسکن الله الماء فی الأرض، وکیف سلکه فی ینابیعها، وکیف فجره فیها عیونًا،وکیف أنزله بقدر معلوم وقدر کمیاته تقدیرًا فی الأودیة والغدران: ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَکَهُ یَنَابِیعَ فِی الْأَرْضِ(([21]). )وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُیُونً(([22])، ) أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِهَا (([23]). )وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْکَنَّاهُ فِی الْأَرْضِ(([24]).
ولم یکن بد من اقتران هذا الوصف العلمی الدقیقی لتکون الماء واستمرار جریانه،ببعض المعانی الدینیة الخالصة التی تذکر بالخالق المنعم على خلقه بإنزال الماء تارة، وتُعرِض على الکائنات فی الماء من منافع لا تنقطع ولا تُحصى تارة ثانیة، وتحذرهم من غیض الماء والجفاف العام تارة ثالثة أخرى.
ومع أن العرب المتتبعین لمساقط الغیث، والخائفین من الجدب والعطش، کانوا على وثنیتهم وشرکهم یؤمنون بأن الله هو المغیث الذی ینزل الماء، کما قال تعالى عنهم: ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْیَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَیَقُولُنَّ اللهُ (([25]). ) أَفَرَأَیْتُمُ الْمَاء الَّذِی تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ(([26]).
وحین یلزم البشر الصمت جحودًا لفضل الله ونعمائه، یسرد لهم ربهم ما أودعه من المنافع وبثه فی مائه. وهنا تتراءى فی آیات القرآن ید حانیة لطیفة تدبر للأحیاء، لیس فی عالم الإنسان وحده بل فی عالم الحیوان أیضًا، طعامهم الذی یقیم أودهم، ویحفظ صحتهم،فتصبّ علیهم ماء السحاب صبًا،وتمضی به إلى التربة الخصبة لینفذ فیها ویشقّها شقّا ویعین النبات على النماء والانبثاق من التراب، والامتداد فی الهواء. وإذا النبات یستحیل حیًا یُقضم، وعنبًا یُعصر، أو فاکهة تؤکل غضة طریة، أو زیتونًا ینبت بالدهن،أو نخلًا باسقات، وإذا الحدائق التی ینبت فیها هذا النبات ملتفة الأشجار، متشابکة الأغصان ،فیها من الثمرات ما یتفکه به الإنسان، ومن المرعى ما یسد حاجة الحیوان: )فَلْیَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنبَتْنَا فِیهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَیْتُونًا وَنَخْلًا ، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاکِهَةً وَأَبًّا، مَّتَاعًا لَّکُمْ وَلِأَنْعَامِکُمْ(([27]).
وعندما یفتح الله أبواب السماء بماء منهمر، کما أخبرنا فی سیاق قصة نوح وقومه من سورة القمر([28])،خلیق بنا ألا نکتفی بتلاوة الآیة مسحورین بما یسری فی ألفاظها من بدیع النغم وناعم الظل ورائع الخیال، بل لابد لنا من استکناه ما ینطوی فی غضونها من مصادر الطاقة المتعددة التی تنهمر بالماء، أو ینهمر بها علینا الماء، کلما تفتحت أبواب السماء. وحینئذ تتفتح قلوبنا لاستیعاب تلک المصادر، والاستزادة منها، والاقتصاد فی استعمالها، والاستعداد لتقبُّل الشرکة فیها،ما دمنا نعلم أن الله هو الذی أشْرَع لنا أبوابها، ونبأنا على ألسنة رسله أنها قسمة بیننا، لا یحتکرها فریق منا دون فریق، ولا الغنی دون الفقیر، ولا البرّ دون الفاجر،ولا المؤمن دون الکافر،مصداقا لقوله تعالى: ) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَیْنَهُمْ کُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ (([29]).
وما توحی به هذه الآیة من مفهوم «التشارک» العام فی اقتسام المیاه، نجد فی حدیث النبی ترجمتَه العملیة وشرحه المفصل عندما یضفی طابع الوظیفة الاجتماعیة على ملکیة بعض الأشیاء، وأهمها ثلاثة، وأولها الماء «الناس شرکاء فی ثلاث: الماء،والکلأ، والنار»([30]). وإذا کان معنى الشرکة فی الماء (أول تلک الأصناف الثلاثة) قد انحصر فی نطاق البیئة العربیة على عهد الرسول صلوات الله علیه وسلامه، فلا ریب فی أن دلالته بدأت تنبسط وتمتد وتتسع فی مجتمعنا العصری، حتى باتت تشمل کل الموارد والمواد والطاقات الأساسیة الضروریة لحیاة الجماعة ونمائها وازدهارها: ففی لفظ الماء وحده تدخل کل الموارد المائیة سواء أکانت للشرب أم للاستعمال أم للسقی والری الزراعی عن طریق ما یسمى «بالزراعة الهوائیة» ([31]). التی تستفید من آخر قطرة من المیاه فی عملیات ری المحصولات والغلال، أم لتولید الطاقة الکهربائیة، أم لزیادة الإنتاج الصناعی عن طریق الشلالات الهادرة الآتیة، أم لإحداث تغییرات «بیولوجیة» فی عملیات «التهجین» لبعض الکائنات الحیة، أم لمزج السوائل المائیة ببعض العناصر الکیمیائیة استصلاحًا لبناء التربة «المیکانیکی»،أو استخراجًا لأدویة وعقاقیر طبیة، أو استحصالا على بروتینات غذائیة، أو تفجیرًا لکوامن الطاقة البشریة فی عملیات التحویل «الفیزیولوجی»([32]).
وهذا الشعور المزدوج «بمسوؤلیة» الإنسان عن الماء وتنمیة مصادره والاحتراس من التفریط بشیء منه،ووجوب «قسمته» بین جمیع البشر قسمة مشترکة عادلة لمضاعفة الازدهار الحضاری، نزداد اقتناعًا به وإدراکًا لأهمیته إذا قرأنا بإمعان ما ورد بشأنه فی الکتاب والسنة، وفی تعلیقات المفسرین والمحدثین والفقهاء.
إن کتاب الله لا ینی یعرض علینا صورًا شاخصة عن إحیاء موات الأرض، وموات المدن والبلدان، ویکاد یدخل فی نطاقها إحیاء ما أشرف على الموت أو وهنت قواه عن مجابهة الحیاة من الحیوان والإنسان.
وإن فی إحیاء الأرض لإحیاء للمدن والبلاد، وتعزیزًا للحضارة والعمران: ) سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّیِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء(([44]). ) وَالَّذِی نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّیْتًا(([45]). ولم تکن الغایة الأساسیة من تکاثر برکات الماء وخیراته إلا إسعاد البشر وإصلاح معاشهم ) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْیَیْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّیْتًا کَذَلِکَ الْخُرُوجُ (([46])
وإنما کان هذا کله لمصلحة الإنسان،لأنه أول کائن حی خلق من ماء: )وَهُوَ الَّذِی خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا (([47])، ) فَلْیَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ، یَخْرُجُ مِن بَیْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ(([48])، ) وَاللهُ خَلَقَ کُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء (([49]). ولم یدخل هذا الکائن المکرم فی منطوق الآیة الأخیرة إلا لأنه أول مخلوق من الماء دبّ على وجه الأرض: ) أَلَمْ نَخْلُقکُّم مِّن مَّاء مَّهِینٍ(([50]). )ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍمِّن مَّاء مَّهِینٍ (([51]). ولم یکن الماء الذی خُلق منه الإنسان مهینًا إلا لأنه اختلط بالتراب فصار صلصالًا وطینًا،وحمأ مسنونًا، فلم یکن ذکر أصله حِطّة بالماء لذاته، ولا حِطّة بالإنسان خلیفة الله فی أرضه، بل کان ذلک لیعرف هذا الکائن الممتاز قیمة الماء الذی نشأ من سلالته،ولیسخره لمصلحته وینمی به حیاتَه وحیاة بَنی جنسه ) وَسَخَّرَ لَکُم مَّا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ جَمِیعًا مِّنْهُ (([52]).
من هنا کانت دعوة الرسول المستمرة إلى إحیاء الموات، وتحریک الجماد، وتکوین الدوافع لمواصلة الإنتاج ومضاعفته: «من أحیا أرضًا میتة فهی له»([53])، «من کانت له أرض فلیزرعها، فإن لم یستطع وعجز عنها فلیمنحها أخاه المسلم، ولا یؤجّره إیاه» ([54]). وتأکیدًا لرغبته فی إحیاء الموات بکل الوسائل الممکنة، قال صلوات الله علیه وسلامه: «عادیُّ الأرض لله ولرسوله، ثم لکم من بعد، فمن أحیا أرضًا میتة فهی له، ولیس لمحتجز حق بعد ثلاث سنین» ([55]).وهکذا جعل علیه الصلاة والسلام مدة السنین الثلاث میقاتًا کافیًا لاستبانة القدرة على الإحیاء لدى من وضع یده على الأرض الموات.
إن تحریک الحوافز النفسیة لمواصلة الإنتاج والعطاء، عن طریق إحیاء الموات، والاستزادة من مصادر المیاه، تزداد أهمیته وترتفع قیمته إذا ألقینا نظرة على ما ابتدعه إنسان القرن العشرین من الأنماط والوسائل «التقنیة» الحدیثة فی الحقول التجریبیة ومختبرات البحوث، حتى استطاع أن یحول منطقة السهوب الآسیویة فی سیبیریا إلى مناطق مزدهرة للإنتاج الزراعی والصناعی بعد أن کانت مسرحًا لتسابق قطعان الرعاة، کما استطاع ان یجعل منطقة شلالات نیاغارا Niagara فی کندا والولایات المتحدة من بین أعم المناطق الصناعیة فی العالم کله، بعد أن کان الهنود الحمر یولون الأدبار، فزعًا من هدیر مائها المتساقط باستمرار ([56])...
إن الموقف الإسلامی إزاء هذا کله لا ینحصر فی تشجیع الإنسان على الاستزادة من الموارد الطبیعیة، وفی رأسها مصادر المیاه، فذلک أمر بدیهی فی ضوء النصوص التی ذکرناها وعلقنا علیها.بل نجد فی الموقف الإسلامی اهتمامًا بشأن الماء لا یعدله اهتمام. إنه یؤکد أن الماء قسمة بین جمیع البشر، ویحذر البشر من احتکاره، أو تلویثه، أو التفریط فیه، وینذرهم خطرًا کبیرًا وشرًا مستطیرًا إن غاض ماؤهم وأصبح غورًا، فماذا یفعلون؟ ومن یأتیهم بمادة الحیاة والإنماء والإنتاج: ) قُلْ أَرَأَیْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُکُمْ غَوْرًا فَمَن یَأْتِیکُم بِمَاء مَّعِینٍ (؟ ([57]).
إنه السؤال الکبیر الذی لا یفکر به الإنسان الحدیث، لأنه حتى الآن ما یزال یجد الماء الغزیر، ولأنه حتى الآن أیضًا لا یصدق أنه قد ینتهی إلى ذاک المصیر الرهیب، فی أمد قریب: ) وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (([58]).
أما نحن فسوف نظل تقرع ناقوس الخطر، خوفًا على مستقبل الماء، وعلى مستقبل الغذاء، وعلى مستقبل هذا الکائن الممتاز الذی خلقه الله من سلالة من ماء وفضله على الخلائق أجمعین.